إن يكن الإعلام الإسلامي الذي درسناه في قسم الصحافة والعلاقات العامة في كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في الثمانينات الميلادية، كان يستعين بمراجع ذات توجه يساري، فهذا أمر يدعو للدهشة والاستغراب والعجب عند السعوديين وعند غير السعوديين، لأن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية جامعة دينية، ولأن هذه الجامعة في السعودية، ولأن عداء الإسلاميين للشيوعية ولليسار في العالم العربي كان أشبه ما يكون بالعداء الغريزي أو البيولوجي منذ أربعينات القرن الماضي إلى ما يزيد على العقد بعد سقوط العديد من الأنظمة الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، وتفكك اتحاده ووحدته إلى أكثر من جمهورية مستقلة عن روسيا عام 1991.
في كلية العلوم الاجتماعية بالجامعة المذكورة ثمة أقسام، كقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، وقسم علم النفس، وقسم التاريخ، كانت الاستعانة بالمراجع الماركسية محظورة ومحرمة فيها، رغم إسهام النظرية الماركسية القوي والبارز في علمي الاجتماع والتاريخ، فلماذا استثني الإعلام الإسلامي من هذا الحظر والتحريم؟!
قبل أن أحاول أن أجيب عن هذا السؤال المحير، أذكّر بأن الحظر والتحريم معمول به في الجامعات السعودية الأخرى، التي لا أقول إنها جامعات مدنية في مجال العلوم الاجتماعية، وإنما هي في هذا المجال جامعات ليست بذات صبغة دينية ظاهرة ومعلنة؛ فهي كذلك لا تستعين بمراجع ماركسية في تدريس علم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد وعلم الأدب والنقد، ولا في علم النفس الذي للنظرية الماركسية إسهام فيه أقل من إسهاماتها في العلوم السابقة.
وقبل أن أحاول الإجابة، أشير إلى أن ما يسمى الإعلام الإسلامي أنشئ في مطلع الثمانينات الميلادية في ثلاث جامعات سعودية دينية، هي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
وكان الإعلام تحت هذا المسمى قبلها يدرّس في قسم الصحافة والإعلام في جامعة أم درمان الإسلامية الذي أُنشئ عام 1965. ويدرّس في قسم الصحافة والإعلام في جامعة الأزهر الذي أنشئ عام 1974.
بدأ مسمى الإعلام الإسلامي في منتصف السبعينات، وذلك في ندوة عقدتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي عام 1976، وكان عنوانها «الإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية: النظرية والتطبيق»، ثم شاع هذا المسمى في مؤلفات وأبحاث ومقالات وندوات ومحاضرات في الثمانينات الميلادية. وإذا ما رجعنا إلى ما قبل منتصف السبعينات الميلادية، فإننا لن نجد سوى كتابين هما دراسة تاريخية أكثر من كونهما دراسة إعلامية، كما أن عنوانيهما يخلوان من إضافة لاصقة «إسلامي» إلى فرع من فروع الإعلام، وهو الرأي العام، وإلى العلم الأساس، علم الإعلام.
هذان الكتابان هما: «الرأي العام في الإسلام» لمحمد عبد الرؤوف بهنسي الصادر عام 1966، و«الإعلام في صدر الإسلام» لعبد اللطيف حمزة الصادر عام 1971.
على ضوء الملحوظة الأخيرة، نرى أن مسمى الإعلام الإسلامي تأخر في الظهور كثيراً عن إنشاء قسم الصحافة والإعلام في جامعة أم درمان الإسلامية، وتأخر في الظهور قليلاً عن إنشاء هذا القسم في جامعة الأزهر. بدأ تدريس الإعلام في تلك الجامعات الدينية بصورة أقسام تابعة لكليات مختلفة فيها، ثم في سنين متأخرة من تاريخ إنشائها تحولت هذه الأقسام إلى كليات مستقلة. شذ عن هذه القاعدة قسم الإعلام في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي تحول بعد نحو أربع سنوات إلى كلية.
ومما يجدر ذكره في مسألة تدريس الإعلام من منظور ديني في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أنه بدأ أولاً على صعيد الدراسات العليا. فلقد كان هناك قسم للإعلام في المعهد العالي للدعوة الإسلامية منذ عام 1976.
وألفت نظر القارئ إلى مفارقة، وهي أن أقسام الإعلام في تلك الجامعات الدينية إبان صعود الدعوة الحماسية لإعلام إسلامي ابتداءً من مطلع الثمانينات الميلادية، ومع تبينها لدعوى الإعلام الإسلامي المستحدثة، وتقديم الإعلام الإسلامي بوصفه البديل الأمثل والأعظم والأكمل والأبهى من أي إعلام قائم في العالم كله، فإن أياً منها لم يحمل اسم الإعلام الإسلامي سوى قسم واحد، هو قسم الإعلام في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، الذي انتقل لاحقاً إلى كلية العلوم الاجتماعية فيها.
أختم هذه الإلمامة المعلوماتية بالتنبيه إلى أنه قبل ظهور مسمى الإعلام الإسلامي، ومع بدايات ظهوره في منتصف السبعينات الميلادية، ومع بدايات بروزه في مطلع الثمانينات الميلادية، كان المسمى الجاري والمستعمل في العالم العربي هو مسمى الإعلام الديني. وهذا الإعلام كان له حصة في بعض برامج التلفزيونات والإذاعات العربية الحكومية، وكان له حصة في عدد من المجلات والصحف العربية الحكومية والخاصة.
بالمقارنة بين المسمى القديم والمسمى الجديد، فإن الاسم ينطبق على المسمى في المسمى القديم أو (بتعبير آخر) هو إعلام ديني عن حق وحقيق. أما المسمى الجديد فإن الأمر بخلاف ذلك. ففي المسمى الجديد - كما قلت في مقال قديم عنوانه «تفتيش بوليسي» - «كنت لا أجد فرقاً كبيراً بين نظرية الإعلام الإسلامي والنظرية السوفياتية للإعلام، وهي النظرية التي تعرّفنا إلى طبيعتها من ضمن نظريات أخرى في مادة دراسية تسمى نظريات الإعلام أو الاتصال».
بعد هذه الإلمامة المعلوماتية، حان وقت محاولة الإجابة. من أول الثمانينات الميلادية كان هناك حديث وجل وفزع عند مسؤولي الإعلام الكبار وعند المعنيين بقضاياه وفي كليات الإعلام وأقسامه في العالم العربي عن خطر وشيك اسمه «تدفق البث الفضائي» قادم من أميركا، ومن دول أوروبا الغربية العظمى، عبر الأقمار الصناعية وعبر الكيبلات التلفزيونية، يهدد حياتنا السياسية والاقتصادية بالخلل والاضطراب، ويهدد هويتنا الاجتماعية والثقافية بالذوبان والامّحاء. وأظن أن أستاذاً، كان - على نحو استثنائي - مفرغاً لمناقشة بعض رسائل الماجستير والدكتوراه في المعهد العالي للدعوة الإسلامية (قسم الإعلام عندما تحول إلى كلية انتقل من مبنى كلية اللغة العربية في شارع الوزير إلى مبنى المعهد في حي الملز)، وكان على ثقافة ومتابعاً لحركة النشر عند الإسلاميين وغير الإسلاميين، وهو في الأصل كاتب إسلامي مجيد وصحافي متمرس في صحافة الإسلاميين، ومن الداعين من فترة مبكرة للإعلام الإسلامي، ومن المنظِّرين له، أقول: أظن أنه هو الذي اختار المراجع الأربعة التي عددتها في المقال السابق الذي أبنت فيه عن توجهها اليساري.
اختارها لأنها كانت هي الكتب التي عالجت نقدياً موضوع التدفق الإعلامي الحر في المنتصف الأول من الثمانينات الميلادية. وربما شجعه على أن يختارها أنها تنتمي إلى منهج ولغة اليسار الجديد، لا إلى منهج ولغة اليسار التقليدي. فاليسار الجديد يقول بحق «الخصوصية الثقافية»، وحق «الذاتية الثقافية» ويتبنى مقولة «الغزو الثقافي والحضاري». ويرى أن الغرب الرأسمالي الليبرالي مسبب لـ«الاغتراب الثقافي» في مجتمعات العالم الثالث، وأنه يسوقها إلى الاستكانة في محاضن «التبعية الإعلامية والثقافية» الدائمة له.
ما زلت أتذكر إلى اليوم أستاذاً كان يدرّسنا مادة «نظريات الإعلام أو الاتصال»، هو - كما أخبرنا - مختص بالعلوم السياسية لا بالإعلام، وليروّعنا من هول ما ستأتي به الأقمار الصناعية، كان يذرع مقدمة غرفة الفصل جيئة وذهاباً، ويصيح بنا في جيئته وذهابه بصوت عالٍ: «بصّو حنبأ أدّام الغرب ملط، عرايا مكشوفين!».
وعوضاً عن أن تنخلع قلوبنا، وتقشعر جلودنا لهول هذا المشهد، كنا نود أن نطلق ضحكاتنا، لكننا لم نكن نجرؤ على فعل ذلك. هذا المشهد المسرحي الذي يكرره بين حين وآخر، كان ينقلب إلى ضد ما يبتغيه منه، لاستخدامه عبارة صريحة ومكشوفة فيه، ولأنه في جيئته وذهابه يمشي متقافزاً وكأنه يتراقص، ولأنه يرفع يديه إلى أعلى على نحو متوازٍ، وعيناه شاخصتان إلى السقف، وكأنه ضبط أشخاصاً يتلصصون عليه بفضول مزعج. لم نكن نستغرق في ذلك المشهد المسرحي بجدية يتوخاها منا، لأنه في غير هذا المقام صاحب دعابة وحس فكاهي، رغم وقار مظهره باللبس الإفرنجي الكامل، وجلال لحيته الطويلة الكثة. وأتذكر أنه عندما ينطق بكلمة «ملط»، في ذلك المشهد المسرحي، يطرأ على بالي مباشرة فيلم «حمّام الملاطيلي»، ولا علاقة لهذا الفيلم بكلمة «ملط»، لكن مردّ هذا التداعي أنني كنت لسنوات طويلة أنطق اسم هذا الفيلم خطأ، إلى أن صحّح لي أكثر من واحد اسمه، إذ كرروا علي أن اسمه «حمّام الملاطيلي» لا «حمّام الملاليطي».
الفكرة الرئيسية عند ذلك الأستاذ الكريم والودود والظريف (سقى الله أيام تدريسه لنا) أن الغرب بأقماره الصناعية التي صنعها من أجل التجسس سيتلصص على أسرارنا السياسية والعسكرية والاقتصادية، وسيتلصص معها على خصوصياتنا الشخصية وعلى لحظاتنا الحميمة، لأنه سيجعل من ساحتنا الداخلية أو الوطنية ساحة مكشوفة أو (بحسب تعبيره) ساحة ملط. ولعلكم تستنتجون مما كان يقوله لنا أستاذنا أن دور الأقمار الصناعية لم يكن في تلك الفترة عند بعض مدرسينا في كلية الدعوة والإعلام واضحاً تماماً. وللحديث بقية.