تَعتبر الأمم المتحدة أن المسؤولية الدولية الجنائية هي أحد روافد القانون الدولي الجنائي الذي وجد لتكريس مقصد الأمم المتحدة فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان؛ إذ هي نظام قانوني ينشأ في حالة قيام دولة أو شخص من أشخاص القانون الدولي بعمل أو امتناع عن عمل مخالف للالتزامات المقررة وفقاً لإحكام القانون. ومن ثم تتحمل الدولة أو الشخص القانوني الآخر في هذه الحالة تبعة تصرفه المخالف لالتزاماته الواجبة الاحترام.
وبالنسبة للفرد كشخص من أشخاص القانون الدولي، فإنَّ مسؤوليته قد تكون فردية أو جماعية. والأصل أنَّها فردية حيث تقع فقط على الشخص مرتكب الفعل الجرمي وحده. ولكن في بعض الحالات يتحمل الجزاء شخص آخر غير الذي ارتكب الفعل لوجود علاقة قانونية تربط بينه وبين من تحمل العقاب عنه أو معه. وهذه الحالة تسمى المسؤولية الجماعية. وهي نظرية نجد لها تطبيقاً واسعاً في القانون الدولي، وتنظمها القوانين الدستورية المتعلقة بشكل الحكم وسلطات رئيس الدولة ومسؤوليها. إلا أن الشرط الأهم في هذه التأويلات والتفسيرات التي تبدو غامضة بعض الشيء هو أن يشكل الفعل خرقاً لقواعد القانون الدولي، والشرط الثاني هو أن يكون الفعل صادراً عن شخص دولي، لكي تعتبر المسؤولية الجنائية ناجمة عن ارتكاب فعل غير مشروع.
ولكي لا نتعمق في غور القانون الدولي في هنا، فإن السطور السابقة تتعلق بشكل خاص بالانتهاكات التي تقع على حقوق الإنسان في حالتي الحرب والسلام.
في 8 يناير (كانون الثاني) 2020 في الساعة 6:12 مساءً، أقعلت طائرة ركاب أوكرانية من طراز بوينغ 737-800 من مطار طهران في طريقها إلى مطار كييف عاصمة أوكرانيا وعلى متنها 176 شخصاً من ضمنهم طاقم الطائرة. وفجأة انفجر صاروخ أرض - جو إيراني على مسافة أمتار عن الطائرة. وبعد 25 ثانية، أصاب صاروخ ثانٍ الطائرة وهي على ارتفاع 2400 متر بعد دقائق من الإقلاع، فسقطت وتحطمت وقُتل كل من عليها.
واتضح أن الدفاعات الجوية الإيرانية كانت في حالة تأهب قصوى في ذلك الوقت، لأن إيران أطلقت لتوها صاروخين باليستيين على قاعدتين عسكريتين عراقيتين تستضيفان قوات أميركية رداً على مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني قائد فيلق القدس في غارة أميركية بطائرة مسيّرة (درون) عند أسوار مطار بغداد بعد وصوله قادماً من دمشق.
واتهم في حينه رئيس الوزراء الكندي جستن ترودو الرواية الإيرانية الرسمية للأحداث بأنها «مخادعة ومضللة وسطحية وتتجاهل عن عمد العوامل الرئيسية». وأضاف أن «كبار مسؤولي النظام اتخذوا قرارات أدت إلى وقوع هذه المأساة، ولا بد ألا يسمح لهم العالم بالاختباء من دون عقاب وراء حفنة من رتب عسكرية متدنية في الحرس الثوري اتخذوها كبوش فداء». ودعا ترودو إلى توقيع عقوبات على إيران أو إحالة مسؤولين كبار أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن الحادث الذي راح ضحيته ركاب من كندا وأوكرانيا وإيران وبريطانيا والسويد وأفغانستان.
وقد رفضت كندا القرار الإيراني بتعويض أقارب الضحايا بمبلغ 150 ألف دولار لكل واحد من الضحايا، وكانت قد حددت مبلغاً يزيد على مليار دولار لتغطية التعويضات تدفعه إيران لذوي الضحايا. وطالبت أوكرانيا بأن «يتم تحديد التعويضات عبر التفاوض»، ولم ترد إيران.
وهددت دول جنسيات الركاب الضحايا بإقامة دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تحدثنا في بداية المقالة عن مسؤولياتها وصلاحياتها.
وفي العادة تختلف تعويضات ذوي الضحايا حسب جنسياتهم، وليس حسب جنسية الطائرة أو أراضي دولة السقوط؛ فالتعويض لأهالي ضحية أميركية يبلغ 4 ملايين و500 ألف دولار، وللبرازيلي مليوني دولار و500 ألف دولار، والكندي بحد أقصى مليوناً و700 ألف دولار، والأوروبي بحد أقصى مليوناً و600 ألف دولار، والأسترالي مليوناً و400 ألف دولار، والماليزي 600 ألف دولار، والصيني 500 ألف دولار، استناداً إلى ما ذكرته مجلة «تايم» الأميركية.
هذا عن المسؤولية الجنائية والتعويضات الإيرانية عن ركاب الطائرة الأوكرانية، فماذا عن المسؤولية الجنائية والتعويضات الأميركية لكل ضحية أفغانية أو غير أفغانية من ضحايا الطائرة العسكرية الأميركية الذين تسللوا إلى بدنها الخارجي وفتحات عجلاتها وسقطوا من ارتفاعات شاهقة؟
يقول الخبير العسكري المصري سمير راغب إن الجسم البشري قد يحترق أو يتفتت إذا سقط من طائرة تصل سرعتها إلى نحو 950 كم في الساعة، وإن هذه السرعة لا تسمح ببقاء جسم بشري على بدن الطائرة الخارجي أو أجنحتها لوقت يزيد على بضع دقائق حتى لو تم تثبيت جسمه بأي وسيلة. ويذكر الخبير أن الجسم البشري المثبت على بدن الطائرة الخارجي يتحول إلى قطع بشرية في مشهد مرعب. بمعنى آخر أن كل الركاب غير النظاميين على أجنحة الطائرة أو العجلات لن تتبقى منهم سوى آثار ودماء، وهو ما يعني أن ضحايا طائرة الشحن العسكرية الأميركية لم يكونا الاثنين فقط اللذين شاهدنا في الفيديو المتداول سقوطهما من ارتفاع شاهق، وإنما جميع من شاهدناهم متشبثين بأجنحة الطائرة خارج كابينة الركاب.
والآن... هل هي مسؤولية جنائية يتحملها قائد الطائرة العسكرية الأميركية الذي جازف بأرواح الأفغانيين الهاربين من «طالبان» ولم يحسب احتمال سقوطهم شبه المؤكد وموتهم؟ أم أنها مسؤولية جنائية تتحملها سلطات المطار، وهي سلطات أميركية - أفغانية مشتركة فشلت في السيطرة على بوابات وأسوار مطار كابل والطائرة المستعدة للتحليق والمدرجات؟ أم أن الضحايا اليائسين والبائسين يتحملون عبثاً مسؤولية ما حدث في يوم عصيب من أيام أفغانستان العصيبة، وما أكثرها؟
طبعاً الطيار يعرف أن لديه ضيوفاً غير مرحب بهم على الأجنحة وفتحات العجلات، ويعرف أيضاً أن مصيرهم الموت، وربما يُقيم أقارب الضحايا قضايا قانونية ضده لأنه تسبب في مقتلهم، لكنه قرر في لحظة توتر أو ارتباك أو حسم أن ينطلق بطائرته من كابل.
بحثاً عن الإجابات نعود ثانية إلى القانون الدولي الذي يحدد المسؤولية الجنائية لحماية حقوق الإنسان وفي مقدمتها حياته، خصوصاً أن أفغانستان لم تكن في حالة حرب معلنة منذ قرار الولايات المتحدة المفاجئ بتسريع الانسحاب العسكري الأميركي من الديار الأفغانية، مثلما فعلت في فيتنام وما ستفعله في العراق في «استراحة محارب» لم تُقرع له الأجراس.
وللمعلومات، فإن أعلى محكمة في الاتحاد الأوروبي، وهي محكمة العدل الأوروبية، قضت قبل عامين بأنه من الممكن اعتبار شركة الخطوط الجوية النمساوية مسؤولة قانونياً عن الإصابات الناجمة من انسكاب كوب قهوة أثناء تقديمه لأحد الركاب على فتاة صغيرة وإصابتها بحروق موضعية. ورفضت المحكمة دفاع شركة الطيران بأنها مسؤولة فقط عن الحوادث بسبب مخاطر الطيران التقليدية، وقالت المحكمة إنه بموجب «اتفاقية مونتريال»، وهي معاهدة دولية بشأن المسؤولية الجنائية الجوية، فإن المقصود بالحوادث ليس فقط الأحداث الناجمة عن مخاطر الطيران التقليدية أو المتعلقة بحركة الطيران.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإن مؤسسة السكك الحديد البريطانية دفعت 136 ألف جنيه إسترليني لرجل تعرض للانزلاق بعد سيره في محطة «بادينغتون» على مخلفات حمامة!
وحتى اليوم، إيران ترفض تقديم تعويضات مناسبة لضحايا الطائرة الأوكرانية. وأميركا لم تحدد موقفها من ضحايا طائرتها العسكرية. حتى لو أن المحكمة الجنائية الدولية رفضت تعويض ضحايا الطائرة الأميركية، لأنهم رفضوا محاولات الجنود الأميركيين لتفريقهم وإبعادهم عن الطائرة والمدرج بإطلاق النار في الهواء، فإن القدر حدث، وفي إمكان الولايات المتحدة تعويض أقارب الضحايا بما يناسب الظروف السياسية والإنسانية.
التعليقات