لن تتوقف أوجاع لبنان مهما فعل لبنان ومهما انهمرت دموع ضحايا أزمة لبنان مع دول الخليج ومهما تأسف رئيس وزرائه، ولن تحمي دعوات الزعامات الدينية الإسلامية والمسيحية لبنان مما أصابه، فالذي أصاب لبنان الحاضر هو خروجه على التوازن الطائفي، الذي حافظ على لبنان منذ الاستقلال، ووجدت فيه جميع فرق لبنان السياسية والدينية والأقليات إطاراً يؤمن لشعب لبنان مجالاً مقبولاً وعملياً يتعايش داخل خيوطه جميع الفرقاء، قادراً على تحييد نزاعات التصادم ويوفر مناخاً داخلياً يتجاوز الاحتكاكات والخلافات، ويشكّل جسراً للتفاهم بين الممارسين السياسيين ويحمي بيئة تعايش لكل الألوان.
هكذا كان لبنان منذ الاستقلال، مارس سياسيوه مناوراتهم داخله وأبدع مثقفوه في مختلف ألوان الثقافة بوحي من السكينة التي عاشها لبنان، وتفوق تجاره في عمليات التصدير والاستيراد ضمن القوانين التي فرضت التوازن، وكانت دبلوماسيته مستوفية لطبيعة التوازن، فلم يدخل لبنان في مواجهات ولم يطلب حقاً في التميز ولم يبحث عن مكان في خريطة الخلافات العربية، فقد تطلع للهدوء وللحذر وابتعد عن سياسة الانزلاق.. هكذا عرفنا لبنان الذي كان وفياً للتوازن، حتى نهاية الستينيات.
لم يكن سلوك الزعماء السياسيين في نهاية الستينيات على وعي بالمتغيرات التي تولدت من هزيمة عام 1967، ولم تتعرف المدرسة اللبنانية الطائفية على الملامح المستجدة في الوضع العربي العام، مع إفرازات الهزيمة وتعالي الصوت الفلسطيني وتبني هذا الصوت نهج التعبير عن حق تقرير المصير مثل الآخرين من الشعوب، فإذا لم يتلاق الدور العربي وتكاتفه مع الثقل العالمي لهذا الهدف، فليكن بالذراع الفلسطينية، التي تسللت إلى لبنان مدعومة بقوى عربية تريد التخلص من أثقالها فعززت توجهاتها نحو لبنان، الذي لم يهتم زعماؤه بالأبعاد التي ستفرزها اتفاقية القاهرة عام 1969 التي وقّعها الرئيس الحلو مع الفلسطينيين، ووفر لهم ساحة في الجنوب اللبناني للانطلاق في مهمة التحرير الوطني الفلسطيني.
كانت هذه بداية خطرة على قاعدة التوازن، التي عاش عليها لبنان، وتلاشت الوصفة التي منحت لبنان حيوية الاستمرار كدولة فيها شبه إجماع حول دبلوماسيتها الخارجية وفي التعايش بين الطوائف.
لم تحرك اتفاقية القاهرة الحساسية اللبنانية الداخلية، خصوصاً الطائفة المسيحية التي كان عليها استيعاب المخاطر واحتمالات انتفاخ الوجود الفلسطيني العسكري إلى حد يؤذي قاعدة التوازن والتعايش، وزاد من تعقيدات الوضع اللبناني أن الزعامات الإسلامية من شيعة وسنّة لم تبد معارضة ولم تتوقف عند هذا المنعطف لتحليل ودراسة المستجد الفلسطيني الذي كان وجوده إضافات لبعض الطوائف رغم أنه يضعف أعمدة الاستقرار داخل لبنان، ولم تكن هناك هبة جماعية إسلامية يمكن أن تؤدي إلى إجماع داخلي لبنان يعالج هذا أثقال الضيف الذي جاء بالضغط، وليس بالترحيب، ويتوقف شعب لبنان جماعياً عند مخاطره، ويحرص على علاج لبناني يتحرك لحماية مبنى التوازن الذي عاش شعب لبنان في داخله منذ الاستقلال، كما لم يكن هناك تنسيق لبناني مسيحي تخرج منه وقفة مسيحية قوية، وإنما كانت المعارضة المسيحية تشعر بالخوف وتحس بالمخاطر مع فزع، لكنها لم ترصد قواها في صف مسيحي موحد.
تنوعت الأزمات منذ ذلك التاريخ، وزاد من تعقيداتها تدخلات إسرائيل وانشقاق اللبنانيين وتجاهل العرب خطورة الأوضاع اللبنانية، وتصاعد الصوت الفلسطيني حاملاً وثيقة رسمية من الدولة اللبنانية بالتواجد العسكري في جنوبه يؤمن لمنظمة التحرير العبور العسكري إلى حدود إسرائيل، كان وضعاً شاذاً رأيت متاعب سفراء لبنان منه وشاهدت استنجاد الفلسطينيين به، كان رئيس وفد المنظمة في نيويورك يحمل في جيبه نسخاً من اتفاقية القاهرة يعرضها للمترددين والمتشككين، ويتسلح بها في ممرات الأمم المتحدة، أحياناً يستنجد بالسفير الكوبي أو اليمن الجنوبي.
وبصراحة، فإن المسؤولية الكبرى يتحملها اللبنانيون الذين كانوا يشاهدون تحولات الموقف الشيعي المواكب للثورة الإيرانية والمستفيد من دعمها والمرتبط مصيرياً باستمرارها، فتمتع بحرية التحرك جنوباً، ومع ذلك، لم يكتف وإنما صاغ ترتيبات وفرت له القدرة على أن يؤثر في حياة لبنان معيشة وبقاء واستمراراً كدولة وككيان، وبالغ في قسوته إلى أن أصبح مصير ملوك السياسة في لبنان بيده، مسيحيين ومسلمين سواء غاضبين كانوا أو صامتين.
ولم ترافق السيد حسن نصرالله زعيم حزب الله في لبنان في ترتيب شؤونه أية أحاسيس بحجم الأذى الذي جلبه تواجده ونهجه ومسيرته على لبنان وعلى شعبه وعلى علاقاته مع العرب ومع غيرهم.
من هذا الوضع الذي تولد من الشلل وروح الانكسار دخل لبنان سياسة حياة اللامعقول، فلا الرئيس قادر على وقف حزب الله ولا الزعامات السنية المدركة للخطر في وضع يمكنها من تقديم شيء يخفف من أثقال الحزب، الذي مصيره وسياسته ونهجه تخضع للثورة الإيرانية، والحقيقة أن لبنان تحول إلى أحد الأجرام التي تدور في الفلك الإيراني صاحب مشروع التبديل والتغيير في كل المنطقة لنصرة المستضعفين وهزيمة المتجبرين.
من هذه الأجواء جاء صوت وزير الإعلام اللبناني، ربما متأثراً بغموض اللامعقول، ومن هذا المناخ الموحي بنشوة القوة وتعاليها، تشجع كثيرون على التصريح بما كانوا لا يجرؤون عليه، فلم يحسب لبنان ممثلاً بالرئيس وبحكومة لبنان الجديدة احتمالات ضيق الخليجيين وبالذات المملكة العربية السعودية من التطاولات المزعجة لنهج المملكة في معاركها مع الحوثيين وعدوان الحوثيين على سيادتها وانقلابهم على النظام الشرعي اليمني.
واستمع اللبنانيون بكل أطيافهم إلى صوت الضجر الخليجي من إدارة حزب الله للشأن اللبناني، الذي أصبح يتحكم في مصير لبنان أرضاً وشعباً، ويرسم الطريق الذي يتبعه لكي يبقى في منأى من سطوته، ومن هذا الهوان والتهاون دخل لبنان في أزمة مصير، لا يملك النظام اللبناني المتواجد حالياً القدرة على إيجاد حلول لها.
هناك دور متوقع من مجلس التعاون بأريحيته العروبية وبإمكاناته الإقليمية وبترابطاته العالمية أن يتبنى مشروع إنقاذ لبنان عبر الدبلوماسية، أولا عن طريق الجامعة العربية التي يجب أن تلتقي بمبادرة من مجلس التعاون لبحث مصير لبنان، من أجل الوصول إلى صيغة يمكن أن تكون مشروعا عالميا يقدم إلى مجلس الأمن لحماية لبنان من الحروب الأهلية، ومن قبضة حزب الله وتفكيك الاختناق الذي حرم لبنان من التنفس الملائم لصحته، فمن دون الجهد العالمي بتواجد عربي مؤثر سيستمر وضع حزب الله قابضاً على رقبة التنفس اللبناني ومتحكماً في مصيره وراسماً حياته مستبعداً أصدقاءه ومصعداً نفوذ إيران داخل ضلوعه.
لم يحسن زعماء لبنان الخيارات لحماية وطنهم، لأنهم التهوا بسباق بناء النفوذ الداخلي في ما بينهم، أفقد لبنان الكثير من الفرص التي كانت متاحة لتسكين نزعات السيطرة التي يخطط لها الحزب..
لدى لبنان رصيد في أوروبا وفي الولايات المتحدة ليس فقط لما يمثله من انفتاح وبقعة إبداع وإنما لحيوية الجاليات المنتشرة، فضلاً عن تراث فكري إنساني موثق، قد تكون هذه الأزمة مع دول الخليج مدخلاً للتحرك الإقليمي والعالمي، وقد تشتعل الغيرة الوطنية اللبنانية لتبادر زعاماته للالتقاء حول خيط وطني يوفر لهم إعادة التوازن، الذي فقدوه جرياً وراء منافعهم الشخصية من دون الاعتبارات لسلامة الوطن..
لبنان بحاجة إلى الحرص الجماعي على سلامة الهوية اللبنانية، وعلى جهد جميع أبنائه لصد تدخلات الطامعين في أموره الخاصة.
التعليقات