طبيعي أن تترقب الأوساط الإقليمية، بشكل عام، نتائج الجهود السعودية الفرنسية الرامية إلى حلحلة الكثير من القضايا المعلقة في المنطقة. صحيح أن العلاقات ما بين الرياض وباريس تعرضت إلى شيء من الجفاء والفتور في فترات سابقة، ولكن يبدو أن باريس أدركت واستشعرت ثقل وأهمية الدور السعودي في المنطقة الذي لا يمكن الاستغناء عنه، ما يدفعها للتقارب والتنسيق، وبالتالي تأتي هذه الزيارة وسط ظروف استثنائية، وتعقيدات إقليمية، على اعتبار أن ما تشكله الدولتان من ثقل وازن دولياً كفيل بدفع الكثير من القضايا نحو مسار الحل.
زيارة الرئيس الفرنسي للسعودية اليوم تأتي في سياق ما يدور في الساحة الدولية فضلاً عن تداعيات ما يحدث في المنطقة، ما يجعلها تكتسب أهمية خاصة في توقيتها وطبيعة الملفات المطروح نقاشها.
موقع البلدين الجيوسياسي سواء للرياض في مجلس التعاون الخليجي أو باريس في الاتحاد الأوروبي يعطي لكليهما زخماً كبيراً للتأثير في المواقف السياسية الدولية. مر التقارب السعودي الفرنسي تاريخياً بمراحل مفصلية بغض النظر عمن كان في الحكم اشتراكياً ديغولياً أو يمينياً، إلا أن أهمها كانت فترة اغتيال رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان.
اللغة الفرنسية الراهنة تشي بتحول جاد ونضج سياسي للتعاون مع الشركاء الفاعلين والأصدقاء في الخليج، ومما يدلل على ذلك ترحيب قصر الإليزيه باللقاءات والحوارات التي جرت في الفترة الماضية بين مسؤولين خليجيين وإيرانيين، واصفاً خفض التوتر بأنه سيدفع باتجاه بناء شرق أوسط مستقر.
في تقديري أن الزيارة تعكس إيمان فرنسا بالبعد الاستراتيجي وما تلعبه الدبلوماسية السعودية من تأثير وحضور في هذا المضمار، بهدف حدوث انفراجات في الملفات المتأزمة التي تعاني من التصعيد والتأزيم. نتذكر أن الرئيس الفرنسي سبق أن دعا إيران إلى إدراج السعودية في النسخة الجديدة من خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني، في محاولة منه لإعادة إحياء الاتفاق النووي بين إيران وأميركا والمجموعة الدولية. ماكرون أيضاً استبق زيارته هذه بمهاتفة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي للمرة الثانية، طالباً منه الانخراط بشكل بناء في المحادثات النووية في فيينا، وأن تعود إيران إلى احترام جميع التزاماتها بشكل كامل بموجب الاتفاق النووي، إضافة إلى التزاماتها إزاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الفرنسيون يقولون إن السعودية لاعب رئيسي في المنطقة وأضافوا أنه «لا يمكن تخيل سياسة فرنسية طموحة من دون الحوار مع المملكة». التصريحات الفرنسية أشارت إلى الرئيس ماكرون والذي يرافقه وفد كبير سيناقش «خلال محادثات مطولة ومعمقة مع ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، سبل تخفيض التوترات في المنطقة»، وكذلك الملف النووي الإيراني والأوضاع في اليمن والعراق ومكافحة الإرهاب والتعاون الاقتصادي والتجاري، كما يرون أن الزيارة «ستكون مناسبة لتعزيز الشراكة الفرنسية - السعودية حول موقع العلا، حيث الحضور الفرنسي فاعل هناك». الناطق باسم وزارة الدفاع الفرنسية، هو الآخر أكد على أن «باريس والرياض تتقاسمان النضال نفسه في مكافحة الإرهاب»، مؤكداً أن لدى بلاده «تعاوناً دفاعياً وثيقاً مع السعودية». ليس سراً أن باريس تعول على التعاون الخليجي في مكافحة الإرهاب خصوصاً مع الرياض وأبوظبي.
الجولة الخليجية لماكرون على السعودية، والإمارات وقطر ستتطرق بشكل خاص إلى الملفين الليبي واللبناني، كما ذكر الإليزيه، وإن كان الموقف السعودي في تقديري واضحاً ومعروفاً ولا يبدو أنه في اتجاه التغيير، على اعتبار أن الرياض ترى أنه لا توجد فائدة مرجوة أو مصلحة اليوم في التواصل مع الدولة اللبنانية وربما ما يعزز هذا الرأي تصريحات الرئيس اللبناني عون الأخيرة التي كرست مصادرة القرار السياسي في لبنان والإمعان في تعميق الأزمة اللبنانية، ناهيك عن فكرة التمديد والتزامه الصمت حينما سئل عن مصير وزير الإعلام، في حين أن ثمة تطابقاً بين البلدين. أما في الملف الليبي فهناك تطابق رؤية سعودية فرنسية وذلك بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر وانسحاب المرتزقة من هذا البلد.
من المهم أن يكون هناك تفاهم سعودي فرنسي ومن المعروف أن فرنسا ترى في دول الخليج منطقة هامة لأنها تؤثر في شرايين اقتصادها فضلا عن أهميتها كمنصة لتفعيل دبلوماسيتها من خلالها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وترى في السعودية تحديدا بثقلها السياسي والاقتصادي وعمقها العربي والإسلامي نقطة انطلاقة رئيسية لعلاقاتها مع دول المنطقة. التنسيق السعودي الفرنسي إن أردنا الحقيقة، جاء ليسد فراغ الدور الأميركي الذي لم يعد مهتماً بمصير المنطقة وأحداثها ولا يعني ذلك أن يحل محله، غير أن تطابق الرؤية ما بين البلدين في ملفات عديدة، كتوحيد الجهود الدولية لمواجهة الإرهاب والموقف من البرنامج النووي الإيراني والعراق والمخرج السياسي في سوريا، سيصب في تعزيز استقرار المنطقة بلا أدنى شك.
الرياض وباريس ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما بدليل المصالح المتعددة والمتشابكة في مجالات عديدة، والتي ساهمت في ترسيخ علاقة وثيقة ومن أهمها التقنية النووية السلمية بالإضافة إلى حجم تبادل تجاري كبير بين البلدين وملفات متنوعة.
التقارب السعودي الفرنسي ليس بالضرورة ضد أحد بقدر ما أنه يسعى لحلحلة قضايا المنطقة وخلق توازن في موازين القوى إقليمياً ودولياً، فضلاً عن أنَّ السعودية ليس لديها حساسية من اتجاهات البوصلة شرقاً كانت أم غرباً طالما أن هذه الوجهة تخدم مصالحها العليا.