مَن سيَدفع ثمن تفاقم الأزمة بين الغرب وروسيا ومَن سيستفيد؟ إذا صدقت المعلومات، لن تكون أوروبا وحدها مَن سترتدّ عليه الدبلوماسية الروسية المعسكرة، وإنما قد تكون إسرائيل أداة من أدوات الانتقام من الولايات المتحدة لإحراجها ولاختلاق أزمة في العلاقات الأميركية - الإيرانية، وذلك عبر البوابة السورية. الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستتصدّر قائمة المستفيدين لأسباب عدّة، من أبرزها استنتاج الكرملين أن النظام في طهران يشكّل لروسيا سلاحاً متفوّقاً وذكيّاً في وجه الغرب لأنه غير قابلٍ للتخمين unpredictable ولأنه بدوره لا يثق بالغرب ويريد تلقينه درساً.

على ذمّة مصادر روسية وثيقة الاطلاع، أن قمّة ستعقد الأسبوع المقبل في موسكو بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الأرجح يوم الأربعاء المقبل، وإسرائيل ستكون موضوعاً بارزاً في المحادثات وفي التخطيط للخطوات المقبلة في سوريا، وما بعد.

وأبرز القرارات يكمن في اعتزام الكرملين بعث رسالة الى إسرائيل تفيد بأنها بالغت بضرباتها الجوية لمواقع حسّاسة لروسيا في سوريا، وأن سيّد الكرملين سيغمض عينيه على ما قد تقوم به إيران ضد إسرائيل داخل سوريا أو خارجها - حتى وإن كان ذلك بضربات استباقية غير متوقّعة، بل مستبعدة في رأي الكثيرين.

الى حدٍّ ما، تبدو روسيا جاهزة لتحريض إيران على إسرائيل كي تورّط الولايات المتحدة وتعرّيها اقتناعاً من القيادة الروسية بأن إدارة بايدن لن تتدخّل عسكرياً. ما يترتّب على ذلك من تداعيات ستكون مؤذية لإدارة بايدن، بحسب التقويم الروسي. ثم إن الوقت حان للجم إسرائيل، في رأي المؤسسة العسكرية الروسية التي طفح الكيل معها نتيجة تضاعف العمليات العسكرية الإسرائيلية بالقرب من المواقع الروسية.

ميناء اللاذقية يقع ضمن الحرم الأمني الروسي بسبب قربه من قاعدة "حميميم" الروسية المجهّزة بالصواريخ والرادارات والقدرات الاستنفارية والتباهي بأنها غير قابلة للخرق. ما قامت به إسرائيل في 7 و28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بضرب طائراتها لميناء اللاذقية شكّل استفزازاً لجبروت المؤسسة العسكرية وتلطيخاً لسمعتها. بالطبع، كان في وسع روسيا صدّ هذه الضربات، لكنها لم تفعل بسبب خلفيّة سياسة غض النظر التي اعتمدتها موسكو- الى حين إفراط إسرائيل وضربها ميناء اللاذقية.

المصادر المطّلِعة على تفكير المؤسسة العسكرية الروسية قالت إن العسكر غاضبٌ مما تفعله إسرائيل الآن في سوريا، وأن التفكير الجاري يميل الى تلقينها درساً كي لا تفترض أنها فوق المحاسبة. قد لا تعلن روسيا مسؤوليتها عن إسقاط طائرات إسرائيلية في الأجواء السورية وتقدّم للقيادة السورية هدية التباهي بأن سوريا هي التي أسقطت الطائرات الإسرائيلية بصواريخ مضادة للطائرات. إنما القرار روسي والقدرات روسية والرسالة روسية.

القاسم المشترك بين الشريكين في سوريا، إيران وروسيا، هو أنهما توصّلا الى قرار في أن الوقت حان لاستخدام القبضة الحديدية مع إسرائيل، وأن العصا أفضل من الجزرة في هذا المنعطف- كلٌّ لغايته. مع نهاية الشهر الجاري، وإذا فرط عقد المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سيتلاقى الغضب الإيراني مع الغضب الروسي من الولايات المتحدة وكامل أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بسبب أزمة أوكرانيا وتوسيع عضوية الحلف. ولهذا، إن المحادثات بين الرئيسين الروسي والإيراني في هذا المنعطف لها أهمية مميزة.

المؤسسة العسكرية الروسية ليست فقط جاهزة لتفعيل الأجهزة والصواريخ المضادة للطائرات وإنما هي أيضاً مستعدّة لـ"قبّ الباط" لعمليات إيرانية ضد إسرائيل من الساحة والجبهة السوريتين. أقله، هذا ما تريد المؤسسة العسكرية الروسية أن توحي به، إما في إطار الانطباع من أجل التموضع لتعزيز أوراقها أو كقرار مفصلي في التموضع الإستراتيجي.

بحسب التفكير الروسي، إن ما تمخّضت عنه المحادثات مع الولايات المتحدة في جنيف ومع حلف شمال الأطلسي في بروكسيل من فشل يستدعي التفكير برزمة إجراءات ردّاً على ما تعتبره موسكو تعنّتاً غربيّاً خطيراً على مصالحها. أهم محطّات الانتقام هي أوروبا، بالتأكيد، لكن أنظار روسيا تتوجّه الى الولايات المتحدة.

التقويم في أوساط صنع القرار الروسي هو أن الرئيس الأميركي جو بايدن عاجز incapable عن التعاطي مع جبهات عدّة في آنٍ واحد. فإذا فعّلت روسيا الجبهة الأوروبية، ودومباس، وفنزويلا، والشرق الأوسط، سيواجه الرئيس الأميركي ضغوط الجبهات المتعدّدة بازدياد من الضعف وليس بمزيد من القوة. رأيها هو أن مصلحة روسيا تقتضي تحفيز stimulate الجبهات المتعدّدة بتزامن لأن الانبطاح أمام الجبروت الأميركي يعني نهاية روسيا ونهاية الرئيس فلاديمير بوتين على سكّة أوكرانيا وتوسيع عضوية حلف شمال الأطلسي.

أحد المصادر وصف إسرائيل أنها "جزء صغير من الموزاييك" في مرحلة التوتر الجيو-سياسي بالرغم من العلاقات الجيّدة جداً التي كانت قائمة بين روسيا وإسرائيل في الأشهر القليلة الماضية.

ما أقرّته القيادة الروسية هو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أهم لها بكثير من علاقاتها مع إسرائيل أو من الدور الذي رغبت الدبلوماسية في وزارة الخارجية أن تؤديه لصقل دور رائد لها نحو تطبيع العلاقات الإيرانية - الإسرائيلية. أنها علاقة إستراتيجية بين موسكو وطهران وميدانية لهما في سوريا.

وبحسب التفكير في أوساط صنع القرار في موسكو، أن إيران مفيدة لروسيا في هذه المرحلة كأداة و"زناد" trigger جيّد لأمور عدّة في أماكن عدّة ومواقع، بما يخدم الأهداف الروسية. ومرةً أخرى، إن في البال الروسي، الولايات المتحدة الأميركية. وكما قال أحدهم "إن اختلاق مشكلة مع إسرائيل هي بمثابة اختلاق مشكلة للولايات المتحدة".

كيف تؤثّر المواقف الروسية الغاضبة على محادثات فيينا في شأن إحياء الصفقة النووية بين كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وبين إيران؟ ترتأي موسكو اليوم أن على العالم التعايش مع إيران نووية "سلميّة ومستقرّة"، وموقفها هو الموافقة التامة على كل المطالب الإيرانية بما فيها رفض أية آليات اضافية لمراقبة البرنامج النووي والاكتفاء بآلية الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA، والعودة الى الاتفاق النووي JCPOA كما هو مقابل رفع العقوبات. الصين توافق روسيا وإيران هذه الآراء والمواقف. الولايات المتحدة والدول الأوروبية تعارض.

فإذا رضخ الغرب، كان به. وإذا رفض، فإن المعركة معه ستأخذ بُعداً مختلفاً في أعقاب فشل المحادثات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وبدء المواجهة في زمن عسكرة الدبلوماسية من إجراءات بناء وتوسيع قواعد روسية في أوروبا كتلك في بيلاروسيا، الى المناورات العسكرية. فأوكرانيا قلبت صفحة اللغة الدبلوماسية كوسيلة لحل الخلافات. وروسيا ليست في وارد الانصياع الى ما تعتبره مسماراً في نعشها.

ستدفع روسيا ثمناً إذا اختارت المضي بالتصعيد، ليس فقط عبر عقوبات اقتصادية جديدة ومؤذية وإنما أيضاً عبر حربٍ تستبدل الدبلوماسية الهادئة بعنف الحرب الباردة لا سيّما إذا نفّذ مجلس الشيوخ الأميركي تهديده بفرض عقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف وسط سباق على التسلّح سيكون مكلفاً لكل من يعنيهم الأمر.

انها مرحلة شدّ الأحزمة واليقظة إلى تحوّلات إستراتيجية وقرارات عنيفة في زمن الغضب والانتقام والمغامرة.