زياراتي القصيرة لدبي، تخبرني بالكثير. وكثرة الزيارات غير السياحية بالغة الأهمية. فالزائر المغلق على نفسه وعلى آخرين، مثله في فندق أو المقيد بمؤتمر أو فعالية هناك، لا يحظى بميزة النظر عبر عيون البلاد السحرية. والعين السحرية تمنح الرائي زوايا متفردة، وتنعم عليه برؤى متميزة. وفي التفرد والتميز حياة حرة حقيقية، تتعدى حدود الفنادق والقاعات والمؤتمرات والفعاليات المخططة مسبقاً.

سبق وركبت مترو دبي، وترامها، وباصاتها العامة. وفي كل مرة، أرى ما يراه المواطن والمقيم، وليس فقط السائح والزائر. والعامان الأخيران، وهما عاما «كورونا» بامتياز، تابعت عبر أكثر من زيارة، قواعد الحياة الطبيعية في ظل الوباء في دبي وشوارعها ومطاعمها ومقاهيها ومولاتها الكبيرة، ومحلاتها الصغيرة، وغيرها مظاهر الحياة اليومية، دون رتوش. وترددت على مصالح حكومية، ومكاتب شبه حكومية، ومارست إحدى هواياتي الصحافية، ألا وهي متابعة الناس وتصرفاتهم، وإيقاع الحياة ونبرة التعاملات، وجميعها أشبه بأدوات القياس.

هذه المشاهدات، تقيس قدرات التعامل مع الأوضاع الطارئة، وإمكانات التأقلم مع الظروف المستجدة، وملكات توصيل المعلومات، وشرح المستجدات بشكل يضع المواطن والمقيم موضع المسؤولية، ومقام الشريك، الذي لن تستوي الأمور من دون تفهمه، واتباعه الإجراءات المطلوبة، والاحترازات المنصوص عليها، وذلك دون ضجر، بسبب القيود، أو محاولات تنصل أو تهرب بعيداً عن أعين الرقابة والمحاسبة.

هذه المرة، رأيت أناساً في كل مكان، على «نفس موجة» الحكومة. الغالبية تفهم أسباب الإجراءات، بل وتعتنقها عن قناعة بأنها الطريق الوحيد لحماية النفس والآخرين. أخبرني عامل النظافة في الفندق، وهو يضحك، أنه أوشك على النوم بالكمامة، وأنه حين يرى وجه صديق دونها، يتملكه شعور بالقلق، ويطلب منه فوراً ارتداءها. ويبدو أنه قرأ ما يدور في عقلي، فقد سارع إلى القول: «لم أصب برهاب أو وسواس. لكن حين هاجمتنا «كورونا» أول مرة، ووجدت نفسي في غرفتي، لا أنا قادر على العمل، أو على العودة إلى بلدي، حيث حركة السفر والسياحة في شبه شلل تام، وبات مستقبلي ومستقبل أسرتي في علم الغيب، عرفت أن أي تصرف أو إجراء، من شأنه أن يحفظ لي حياتي وعملي، سيكون نعمة كبيرة».

النعمة الكبيرة المتمثلة في حياة طبيعية - وإن كانت بقواعد جديدة - واضحة في كل مكان في دبي. الإجراءات مشروحة، ويعاد سردها عبر رسائل قصيرة بسيطة، لا مجال للبس فيها. والرقابة للتأكد من التطبيق موجودة، ولكن يصاحبها ويعضدها نتاج منظومة التوعية الناجحة للجميع.

وجميع من أتيحت له زيارة إكسبو 2020 دبي، يعرف أن ما يحدث في دبي، في ظل استمرار هيمنة الوباء على الكوكب، جدير بالدراسة، لمعرفة أن المستحيل ممكن، وأن القادم أفضل. وإذا كانت فكرة «إكسبو 2020 دبي»، وما تحتوي عليه من منابع معرفة، ومصادر تعلم وتناقل وتبادل المعارف، وفتح آفاق معيشية وتقنية وابتكارية، لا أول لها أو آخر، جديرة بالتأمل والتعمق، بغرض التعلم، فإن إقامة «إكسبو 2020 دبي»، في ظل ظروف الكوكب الراهنة واستمراره، لا سيما مع هجمة «أوميكرون» الغاضبة، ومرونته في التعايش والتعامل مع المتغيرات والطوارئ، هي المقصودة بالدراسة هنا.

الأمر بالطبع لا يخلو من اضطرار لتقليص فعالية هنا، أو تعديل برنامج هناك، فالوباء أممي، وقراراته لا علم لأحد بها سواه. لكن أن يكون «إكسبو» على هذه الدرجة من المهنية والمرونة، اللتين تمكنانه، ليس فقط من الاستمرار، بل في استدامة الجذب، سواء من قبل الأفراد أو الدول، أو وسائل الإعلام، فهذا إنجاز مذهل. وعلى المهتمين بأمر حياتنا على ظهر الكوكب بأفضل صورة ممكنة، في ظل منظومة الطوارئ الصحية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، أو غيرها مستقبلاً، عليهم دراسة التجربة ونقلها.

ولمن يريد قياس نجاح دبي في هذا الشأن، عليه متابعة ما ينعق به البعض. فبينما العالم كله مبهور بالأداء، ومقبل على المشاركة والاستفادة والاستمتاع، هناك جماعات ومجموعات الشر المتعاقد معها، بغية النواح والنعيق، وافتعال البؤس، ومحاولات مستميتة لبث التشاؤم، ونشر الإشاعات والأكاذيب.

لكن تظل مجريات الحياة اليومية في دبي، والنجاح المستمر والمبهر لـ «إكسبو 2020»، خير مرآة للواقع. والواقع في دبي، لا يحتاج جهداً للاكتشاف، أو تعباً للمعرفة. كما لا يستلزم التواءات أو تمويهات، من أجل الوصول إلى الحقيقة. توجه إلى دبي، اركب المترو، أو استقل سيارة أو باصاً، زر «إكسبو 2020»، واقضِ يوماً، وكوّن انطباعك. هل تشعر أن هناك حياة بعد أو حتى مع كوفيد 19؟ هل أنت أكثر تفاؤلاً؟ هل لديك قدر أكبر من الثقة في القدرة البشرية على اجتياز المحنة؟.

ومن يتصور أن محاولة إرهابية بائسة هنا، أو جهود بث فتنة وشكوك هناك، قادرة على التعطيل أو إلحاق الأذى، فهو حتماً يحتاج إعادة نظر في معتنقاته، ومراجعة معتقداته.