الصراع الدائر بين روسيا وامريكا على الارض الاوكرانية تثير في الذهن انواعًا متناقضة من الافكار، ومعظم هذه الافكار تميل الى النوع السلبي المرعب، تتدرج بين الاستسلام المذل والانتحار الذي يحفظ مكانة النفس عند فضيلة الكرامة.. هذا الصراع يختلف جوهريًا عن جميع الصراعات والحروب عبر مجمل التاريخ البشري، لأنه يحمل في ثناياه رصاصة الرحمة على الجنس البشري، فمع هذا الصراع قد يتبخر الإنسان من سطح الارض، وتترك الارض انتظارًا لسيد جديد!!

ومن هذه الافكار رضوخ الكرامة المهانة الى الانتحار.. بيدي لا بيد عدوي، أو أن الموت اشرف من حياة الذل تحت يد الاعداء.. هكذا طبيعة النفس العزيزة الكريمة.. عندما يحشر القوي في زاوية فانه يقتل نفسه، وقد يقتل معه اعدائه والبقية الباقية.. وهذه هي ميزة القوة عندما تكون محشورة في زاوية لا تستطيع التخلص منها، فتخلص نفسها وتخلص على الآخرين معها.. ليس على غرار ما فعلت كليوبترا عندما تجرعت السم قبل أن يقبض عليها القائد الروماني الذي كان قد دخل قصرها بعد احتلال مصر بكاملها.. وليس مثلما قالت الاعرابية «بيدي لا بيد عمرو»، في لحظة الخوف من التمثيل بها على يد عدوها عمرو.. ولا كما يفعل المقاتل الياباني (ساموراي) عندما ينهزم امام عدوه، فيقدم على الانتحار ببقر بطنه، وهو ما يسميه اليابانيون «هارا كيري».. في الحرب العالمية الثانية كان الطيار الياباني ينتحر بطريقة تلحق الأذى بعدوه، إذ كان يضرب بكامل طائرته الحربية بارجة العدو، ولكن قدرة اليابان العسكرية لم تكن في مستوى انهاء عدوه معه.. وحتى لو كانت تمتلك اسلحة نووية فانها لم تكن بقدرة النووي اليوم.. ولكن على غرار ما فعل شمشون الجبار، ولانه كان قويًا جبارًا فقد خاض معركته الاخيرة بهدم المعبد على اعدائه وعلى نفسه.. هكذا يكون انتحار الجبابرة الاقوياء، اذ كيف يمكن للقوي أن يقبل على نفسه العالية المتعالية من ضيم الخنوع وتقبيل قدم عدوه الذي يريد هزيمته واذلاله واغتصاب كرامته.

المفارقة في هذا الصراع أن الطرفين محصوران، روسيا محاصرة ومهددة بقواعد ناتو العسكرية، والناتو، بقيادة امريكا، كذلك محاصرة، بمتغيرات جيوسياسية- عسكرية مدعومة بالرعب النووي، تهدد مكانتها الريادية في العالم وعلى العالم.. الصراع بين روسيا التي تدافع عن كيانها، والغرب عامة وامريكا خاصة التي تريد المحافظة على مكانتها في العالم ومواصلة التحكم في موارد الشعوب وخاصة الطاقة والامساك بزمام العقوبات الاقتصادية والمالية على من تشاء وفي اي وقت تشاء..

بهذا المنطق، فان امريكا كذلك محشورة مثل روسيا، والذي قد يعني أن قرار انهاء الصراع بآخر حرب من المحتمل أن يكون مشتركًا بين المتصارعين ؛ في هذه الحالة فان قرار الحرب سيكون خاتمة الحروب التي سوف تريح الكرة الارضية من دنس الإنسان.. خزينة التجارب علمتنا بان المفاجآت غير المتوقعة وغير السارة لها مواضع ومواقيت خارج إرادة الإنسان، بمعنى خارج ارادة العقل بعد أن تُسْتَفَزَّ النَفْسُ ويتعطل الفكر، وهذه هي لحظة ولادة المفاجآت غير السارة.

الصراع بين شمشون وشمشون، وهل يمكن لأحد الشمشونين أن يتنازل امام الشمشون الآخر؟ الجواب سلبي بالمنطق السيكولوجي الذي يحرك انانية الإنسان ويوجه دفة ذاتيته المغروسة في أعماق وعيه الباطن. ولكن من الممكن جدًا أن يتوصلا الى صيغة تفاهم تحفظ قطرة ماء الوجه الباقية بينهما عن طريق وسيط يتسم بالحكمة من جهة والدهاء من جهة أخرى، وفوق هذه الصفات والقدرات يتمتع بمكانة محترمة بين الطرفين.

العالم اليوم على المحك، على مفترق طريقين لا ثالث لهما، إما أن يتابع التنفس ويحيا، أو يُفَجِّرَ بعناده رئتيه.. العالم بين خيارين، أن يكون أو لا يكون، والقرار بيد الإنسان.. هل يمكن الانعطاف من هذه الازمة الى نظام عالمي جديد اقرب الى السلم من الحرب؟ ويكون الانعطاف الى طريق المفاجأة السارة.. خزينة التجارب كذلك تحوي النوع السار من المفاجآت.. المفاجأة السارة تولد وترى النور عندما ينقل الإنسان صراعه الخارجي الى صراع داخلي، والمفاجأة السارة هي لحظة ولادة الحكمة من تفاعل الصراع الداخلي بين العقل والقلب، بين الفكر والنفس؛ بمجرد أن يُقَلِّبَ الإنسان محنته بين الفكر والنفس، فان كفة الفكر تكون في الغالب هي الراجحة.. وقد شهد شاهد من فرسان السياسة والحرب، وهو الرئيس الامريكي جون ف. كيندي على رجحان كفة حكمة الفكر على هوى النفس، بعد ازمة الصواريخ في كوبا، بقوله: «لا بد للإنسانية (الجنس البشري) أن تنهي الحرب وإلا فإن الحرب ستقضي على الإنسانية»...