اعتاد العرب في السابق، خصوصا الوجهاء، وذوي الشأن إرسال أبنائهم للعيش في الصحراء لاكتساب خصائص ربما لا تتحقق في المدينة، وداخل القصور، فالصحراء بقلة الموارد، وشظف العيش، والاتجاهات المفتوحة بلا حدود تمكن من التأمل، والتفكير العميق، ذلك أن مجالس الصحراء التي تعقد، وتعرض فيها قصص الفروسية، والأشعار، وسير الشجعان كلها تسهم في صقل الشخصية، وبنائها البناء السليم، وبما يتناسب مع التحديدات، والصعوبات التي تواجه الفرد، أو المجموعة، إضافة إلى مكسب تقوية لغة الفرد، واكتساب المفردات وطريقة النطق السليم.

لست في هذا المقال بمعرض الحديث عن قيمة العيش في الصحراء، والفوائد الجمة المترتبة على ذلك، بل سأتناول الحديث عن شخصية وطنية عاشت في الصحراء، وعشقتها، حتى أصبحت جزءا من حياتها، تتزاحم تفاصيلها بكل مكوناتها من كثبان رملية، واتجاهات الرياح، والأودية، ونوع الرمل ولونه، والأشجار ليستحق لقب خبير الصحراء، أو GPS الصحراء، أو دليلها.

في هذه الأيام تم بعث اسم خميس رمثان العجمي، بعد أن كاد يمحى من الذاكرة الاجتماعية التي لم تختزن حوله إلا قليلا من المعلومات، إذ قد سمعت به من قبل كدليل دون تفصيل حول حياته، وشخصيته، ودوره الأساسي في اكتشاف أولى بئر نفط في المملكة، وهي بئر الدمام 7.

القدرة على تخزين المعلومات في الذهن، وإدراك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، كما يراها الآخرون، كانت إحدى الخصائص التي تميز بها خميس، مع فطنة، وصفاء ذهن، مكناه من سرعة مراجعة المعلومات المخزنة، وتحديد اتجاه موقع ما، وتحديد المسافة التقريبية إليه، دون استخدام خرائط، وإنما بالاعتماد على المكونات الطبيعية للمكان، والنجوم، كل هذا مكن الخبراء الجيولوجيين الأمريكان من الوصول إلى موقع البئر رقم 7، لينطبق على خميس لقب بوصلة الصحراء التي أبهرت الخبراء الأجانب، مع ما لديهم من خرائط وأجهزة كانوا يؤمنون بقدرتها على تحديد الاتجاهات، والأماكن التي يرغبون في الوصول إليها بدقة، وسرعة فائقة، إلا أن الصحراء نسفت توقعهم، وأجبرتهم على الأخذ بالذكاء الفطري والخبرة البشرية، ولعل من المناسب الإشارة إلى أن أدبيات علم النفس تتضمن ما يعرف بالقدرة المكانية التي يتمايز فيها الأشخاص، وتم توظيفها لاختيار الأفراد في الاختيار الوظيفي، خاصة في الوظائف التي تحتاج إلى القدرة المكانية.

الصحراء بطبيعتها الجافة من سموم، وبرد قارس، وذرات رمل تنحت في الوجه، وشمس حارقة رسمت على وجه خميس خريطة المملكة حتى ليكاد المرء يقرأ المعلومات الجغرافية، والتاريخية، والأخبار في وجهه، ولا غرابة في ذلك من شخص عاش في الصحراء، وكابدها، وتعرف على مواقعها، وقبائلها، وكل تفاصيلها، الخريطة التي تبدو على تجاعيد وجهه، وسمرته خزنت في عقله ليكون أفضل معين للخبراء ليتحقق الحلم، وأي حلم نقل المملكة اقتصاديا، وتعليميا، وثقافيا، وحضاريا من مرحلة إلى مرحلة مختلفة كل الاختلاف.

حظي خميس في حياته بالتكريم المعنوي، حين قدم له رئيس شركة الزيت شهادة تقدير، كما تم تعيينه موظفا في الشركة، وبعد وفاته تم إطلاق اسمه على إحدى آبار النفط، وحملت إحدى ناقلات النفط العملاقة اسم رمثان تقديرا لجهوده.

عرض هذه الشخصية يجب أن يكون في سياق كونها رمزا يحتذى، وقدوة للأجيال المقبلة، ليدركوا حجم المعاناة التي مر بها الآباء، والأجداد، وما بذلوه من جهود ومشقة في بناء الوطن لإيجاد الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن، والمحافظة على ما تحقق من مكتسبات، وأرى أن تعمم الفكرة على كل من أنجز للوطن في كل المجالات: التعليم، والاقتصاد، والإعلام، والمخترعات... إلخ.