ربما لا يقرأ هذا المقال بوساطة الجريدة الورقية، إلا قليل بالمقارنة مع الذين استبدلوا الورق، بالقراءة الإلكترونية، عبر شاشة صغيرة و كبيرة. وتكمن المشكلة أنني سأحدثكم أيها الكرام عن (الجريدة)، فهي كما يقول الأستاذ عبدالسلام هارون: «كلمة عربية صحيحة، وأصلها الأصيل هو الواحدة من سعف النخل، التي يجرد عنها الخوص.

وقديماً كان الجريد من أوعية القرآن الكريم، يكتب فيه، كما يكتب على الورق والعظم، واستعملها المولدون من قديم بمعنى دفتر أرزاق الجيش في الديوان، أي الدفتر الذي ترصد فيه مرتباتهم. ثم استعملها المحدثون بمعنى واحدة الصحف التي تنشر فيها الأخبار.

وهو توليد صحيح لا غبار عليه». والحقيقة أن هارون، رحمه الله، عاش في وقت سابق لوقتنا، وإن كان بعد مرحلة أمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932م)، الذي كتب أبياتاً جميلة، مستبشراً بتدشين الصحف أو الجرائد، آنذاك، إلى حد اعتبارها آية ذاك الزمان، فقال:

لِكُلِّ زَمانٍ مَضى آيَةٌ وَآيَةُ هَذا الزَمانِ الصُحُف
لِسانُ البِلادِ وَنَبضُ العِبادِ وَكَهفُ الحُقوقِ وَحَربُ الجَنَف
تَسيرُ مَسيرَ الضُحى في البِلادِ إِذا العِلمُ مَزَّقَ فيها السَدَف
وَتَمشي تُعَلِّمُ في أُمَّةٍ كَثيرَةِ. مَن لا يَخُطُّ الأَلِف

أواه ما أشوقني لأعرف كيف سيفعل شوقي، وسع الله عليه مرقده، لو عاش زماننا هذا؟! هل سيكتب عن تويتر، أو سنابشات، أو انستغرام، أو فيسبوك؟!

وهل كان أحمد بك، سينشر أبياته بتغريدة، أم سيبثها مصورة عبر تيك توك، وهل سيخطر ببالكم أنه من باب مسايرة الجيل الشاب سيخلع طربوشه تبسطاً مع غالبية الشعب من الأجيال الجديدة اليافعة؟! الأكيد أن رجلاً بوعي أمير الشعراء، سيستوعب الواقع، ولو بعد صدمة قاسية، لا أظنها تطول، فمن نوادر مقولات عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قوله: «النَّاسُ بِزَمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ».

والمصيبة الأدهى، كيف سيكون وقع خبر ضمور الصحافة الورقية، وغزو الشاشات المحمولة لكل أنواع الإعلام، دون استثناء مشاهدة الأفلام من خلالها! ثم ألا تتوقعون أن أمير الشعراء، الشاعر المصقع، الفحل، سيكتشف تبدل الدنيا، فأصبح لكل زمان آياتٌ لا حصر لها، ولا يلحق بها علماً إلا ذو حظٍ عظيم، وفراغٍ كبير!

تاريخياً كانت تجارب الطباعة البدائية في أوروبا ذات نتائج غير مبشرة، لكن الشغف الذي لازم العاملين في حقل الطباعة وازدياد طلبات السوق، حيث كانت أوروبا تتلهف للمعرفة، والتعلم بأي وسيلة والصحيفة، أو الجريدة، وسيلة لا تناكفك لعدم فهمك، ولا تغضب عليك إذا لم تسر في طريقها المحدد، ومارست حريتك في القراءة، فانتقل أنصار الطباعة الجدد إلى أوروبا عام 1445، لكن الصعوبات كانت عائقاً أمام إصدار ما يرضيهم. فطبع أول كتاب بسبك الحروف وجمعها لتشكل كلمات ثم جملاً، وكان الكتاب هو التوراة وطبع عام 1450.

في النصف الثاني من القرن الخامس عشر زادت ضغوط المستهلكين، الذين يطالبون بالجريدة، وسيلة للتثقيف، والترفيه البريء، ولا أنسب من الصحف، لهكذا مهمة. فصدرت بضع مطبوعات إنجليزية غير منتظمة الصدور في 1622، وخلال سنوات ثلاث كانت المطابع جاهزة لتصدر صحفاً أكثر قشابة في شكلها من البدايات، وتصدر بشكل منتظم ودوري.

أما وقد استبشرنا خيراً بأن كلمة (جريدة) أصلية أصيلة، ضاربة في أرض العروبة عروقها، فبعد حمد الله على كل حال، لا أشك أننا سنحس بمرارة تأخر المعرفة، فقد عرفنا عروبة (الجريدة)، في حين أوشكت الجرائد الورقية على الاندثار. وأقول أوشكت ليكون عندي خط رجعة أصالح فيه أحبتنا الصحفيين الذين لا يزالون يناضلون ببسالة عن بقاء الورق، كلل الله جهودنا وجهودهم وجهودكم بالنجاح، والله يحفظكم.

قلتُ: ومن أسفار الأدب العربي الثمينة، مُصنف عماد الدين الأصبهاني (ت597هـ)، المعنون بـ:(خريدة القصر وجريدة العصر). وأما معنى الخريدة، ففي (لسان العرب)، لابن منظور: أن «الخَرِيدَة، والخَرِيد، والخَرُود، من النساء: البِكر التي لم تُمْسَسْ قط، وقيل: هي الحيية الطويلة السكوت الخافضة الصوت الخَفِرة المتسترة، قد جاوزت الإِعْصار ولم تَعنَس، والجمع خرائد وخُرُد وخُرَّد، الأَخيرة نادرة، لأَن فعيلة لا تجمع على فُعَّل، وقد خَرِدَت خَرَداً وتَخَرَّدت؛ قال أَوس، يذكر بنت فضالة، التي وكلها أَبوها بإِكرامه، حين وقع من راحلته فانكسر: ولم تُلْهِها تلك التكالِيفُ، إِنها كما شئتَ من أُكْرُومَةٍ وتَخَرُّد وصوتٌ خَريدٌ: ليِّن عليه أَثر الحياء(...) المُخْرِد: الساكت. وأَخْرَد: أَطال السكوت. أَبو عمرو: الخارد الساكت من حياءٍ، لا ذُلٍ، والمُخْرِد: الساكت من ذُلٍّ، لا حياء. ابن الأَعرابي: خَرِدَ إِذا ذَلَّ، وخَرِدَ إِذا استحيا، وأَخْرَدَ إِلى اللهو: مال؛ عن ابن الأَعرابي: وكل عذراء: خَريدة. والخَريدة: اللؤْلؤَة قبل ثقبها. قال الليث: سمعت أَعرابيّاً من كلب، يقول: الخريدة التي لم تثقب وهي من النساء البكر، وقد أَخْرَدتْ إِخراداً. قال ابن الأَعرابي: لؤلؤَة خريد لم تثقب». لا أريد أن أكون متشائماً، لكن حتى مصطلح الخريدة يواجه مشكلة، فلم يعد هناك لؤلؤ في ديارنا، بعد أن امتلأ السوق باللؤلؤ الصناعي، كما امتلأ بجيش عرمٍ من تطبيقات السوشال ميديا. والله يحفظكم.

* السفير السعودي لدى الإمارات