في لحظة واحدة، مات، ليل السبت الأخير، خمسة وثلاثون شخصاً في البحر من أصل ثمانين كان يهرّبهم قارب من لبنان إلى أوروبا، إثر تصدّي وحدة من القوات البحرية في الجيش اللبناني لهذه الرحلة.

ومع ذلك، ظهرت السلطة اللبنانية، بكل مكوّناتها، كما لو كانت "بريئة" من هذه المأساة التي تختصر المعاناة الإنسانية والوطنية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي يتحمّلها الشعبان اللبناني والسوري اللذان مثّلهما خير تمثيل هؤلاء الذين ركبوا مخاطر الزورق الغريق.

لم يبق استنكار إلّا وصدر، ولم يخجل أحد من المسارعة الى المطالبة بتحقيق جدّي وشفّاف، كما لو كان اللبنانيون لا يعرفون ما ستكون عليه نتيجة هذه التحقيقات لو توصّلت الى حقائق تُزعج الأقوياء والمحميين، وهم الذين لا يزالون يصرخون، من دون أيّ جدوى، في وجه العراقيل السياسية والأمنية التي واجهت بها السلطة مسار التحقيق في ملف انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020.

بالمحصّلة، لم يستقل مسؤول واحد ولم تتم إقالة جندي واحد، ولم يُتّخذ إجراء واحد "عليه القدر والقيمة"، بل اندفع رئيس الجمهورية ميشال عون، في جلسة عقدها مجلس الوزراء، الى إغراق عملية الغرق في كلام مسهب عن النازحين السوريين، بكلمات يتم تردادها منذ العام 2011، وفي مقاربة عمرها عشرات السنوات لملف اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان، فيما كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يستعين، كعادته، في مواجهة المآسي، ب"مخزون" دمعاته، والوزراء يستفيضون في تقديم نظرياتهم عن "الطابور الخامس" الذي يستهدف الأمن في البلاد، لاهين عن أنّ الغضب الذي اجتاح طرابلس وغيرها من المدن المظلمة والعطشى والجائعة، على إثر مأساة الغرق، لا قيمة "استراتيجية" له إلّا إذا جرى عطفه على الصاروخ الذي انطلق من الجنوب باتجاه إسرائيل التي ردّت بقصف شمل ثلاث بلدات لبنانية، على الأقل.

وقد انتهى مجلس الوزراء الذي كان قد أعاده "الثنائي الشيعي" إلى الحياة بعدما "اغتال" التحقيق في ملف انفجار المرفأ، الى وجوب أن تتولّى المحكمة العسكرية التحقيق في قضية غرق القارب. هذه المحكمة التي، وفق ما بيّنت الأدلّة المتراكمة على مدى عقود، تحترف تغطية السلطة والمؤسسات العسكرية والأمنية سواء أكانت شرعية كالجيش أم غير شرعية ك"حزب الله"، الأمر الذي أفقد غالبية اللبنانيين الثقة بمرجعيتها.

لا عجب في ذلك، فلو كانت الأمور في لبنان تُعالج بطريقة مختلفة، لما وصلت حال "بلاد الأرز" الى ما هي عليه حالياً.

إنّ طريقة تعاطي السلطة، بكل مكوّناتها، مع "قارب الموت" وقبلها مع انفجار مرفأ بيروت، سبق أن جرى اعتمادها، في التعاطي مع الوضعين المالي والإقتصادي، عندما سارعت حكومة حسّان دياب، وقبل أن تضع خطّة قابلة للحياة، إلى التوقّف عن دفع فائدة الديون المستحقة على الدولة اللبنانية، ممّا تسبّب بأزمة مصرفية لم يعرف لبنان والعالم مثيلاً لها، الأمر الذي ارتدّ كارثة آخذة في فرض مآسيها على جميع اللبنانيين الذين راحوا يبذلون أقصى جهودهم ليهربوا من بلادهم، بطريقة شرعية أو غير شرعية، جوّاً وبرّاً وبحراً.

ومنذ ذلك اليوم "العشوائي" الذي ضغطت من أجله مرجعيات سياسية رسمية وغير رسمية لا عهد لها بدهاليز عالمي المال والإقتصاد وأسرارهما وأصولهما، عجزت السلطة عن اتّخاذ إجراء واحد يمكنه أن يضع البلاد على السكّة السليمة بما في ذلك قانون مدروس ومتوازن ومنصف للتحكّم بحركة الأموال ( كابيتال كونترول)، فأهدرت ما كان قد بقي من احتياطات في مصرف لبنان، على بضائع كان يجري تهريب نصفها تقريباً، إلى سوريا عبر معابر يسيطر عليها "حزب الله" من جانب والمخابرات السورية من جانب آخر، وتقف حيالها الأجهزة الأمنية اللبنانية التي تصدّى جزء منها "ببسالة" ل"قارب القلمون"، عاجزة أو صاغرة أو ...راضية!

وفي ملف مصرف لبنان الذي كان يوفّر، من دون أيّ رادع أو وازع، لحكومات المحاصصة والصفقات والسمسرات والفساد والعجز والعشوائية ما تحتاج إليه من أموال، وعلى الرغم من فتح ملفات حاكمه رياض سلامة في أكثر من دولة والحجز على ممتلكاته في أكثر من عاصمة، تقف السلطة عاجزة عن حسم توجّهاتها حياله، فإذا كان هو لا يستقيل لأنّ بقاءه في منصبه يمكن أن يوفّر له الحدّ الأدنى من الحصانة، فهي لا تُقيله، بداعي الخلاف بين أركانها على البديل، ولكنّ الحقيقة لا تكمن هنا، بل في أنّ الجميع، من دون استثناء، يخافون على أنفسهم من مستندات رياض سلامة الذي، على خلاف الثمانين هارباً على قارب الموت، لن يقبل أن يغرق وحده، لأنّ رقاب أصحاب القرار عالقة في آلاف الأدلّة والوثائق التي ستكون، في لحظة واحدة، بمتناول المحاكم الأوروبية المهتمة.

وفي كارثة الكهرباء، فإنّ هدر أكثر من نصف الدين العام على مؤسستها، لم يُعفِ اللبنانيين من الوصول الى العتمة الشاملة، ومع ذلك، وعلى الرغم من المطالب الدولية، يتم الإمتناع عن تعيين الهيئة الناظمة، وسط إصرار على إبقائها في يد وصي سياسي واحد يوزّع عليها مستشاريه والمقرّبين منه.

وعلى الرغم من المآسي التي تتسبّب بها الظلمة، مع تآكل قدرة اللبنانيين على توفير مصادر بديلة، فإنّ من يندفع الى "دفش" وزير الطاقة والمياه وليد فيّاض، بعدما ضاق صدره ولبنانيين كثراً، من مشاهداته وصوره وتنقّلاته الإحتفالية، يدخل الى السجن حيث لن يجد مسؤولاً واحداً عن إغراق الكهرباء في المال المرمي في البحر، يقتل معه الوقت.

وفي ملف العلاقات اللبنانية-الخليجية، فإنّ عودة سفراء المملكة العربية السعودية والكويت واليمن الى لبنان بعد المقاطعة، لم تسحب نفسها، بعد على العلاقات التجارية التي كانت قد قطعتها الرياض، إثر تحوّل المنافذ البحرية والجويّة اللبنانية، إلى معبر لإغراق أسواقها بالمخدّرات على أنواعها، ولا سيما "الكبتاغون".

وهذا يفيد بأنّ خسائر هذه المقاطعة لا تزال تتراكم على الصناعي والمزارع والتاجر والمصدّر والموزّع.

ولم تُظهر الأجهزة الأمنية قدرة على "إغراق" مصنع واحد للمخدّرات، بسبب الحمايات التي تتوافر لهذه المصانع الممتدّة بين مناطق نفوذ "حزب الله" في لبنان ومناطق نفوذ المخابرات في سوريا.

ولا يشمل الحديث عن مصنّعي المخدّرات ومهرّبيها، العجز السلطوي الكامل لوضع حدّ لتوريط "حزب الله"، وهو ركن أساس في الحكومة، في حروب المنطقة وصراعاتها، الأمر الذي ارتدّ سلباً على جميع اللبنانيين، من دون استثناء، بفعل ما أصابهم وبلادهم، من جرّاء ما يمكن تسميته ب"المال المحجوب".

كما أنّ البحث لا يتطرّق الى سلاح "حزب الله" المرتبط ارتباطاً وثيقاً ب"فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني"، بعدما وقف جميع أركان السلطة، في موقف المتفرّج، حيال وعود أطلقوها، مراراً وتكراراً، من أجل التوصّل الى استراتيجية دفاعية من شأنها أن تنقل السلاح من خدمة الأجندة الإيرانية الى خدمة المصالح اللبنانية، خائفين على أنفسهم من أن يدفعوا الثمن الذي تكبّده الرئيس السابق ميشال سليمان، بعدما حرق أصابعه حتى يمنع إغراق لبنان.

الأهم في هذه الجولة على هذه المشاهد أنّ هؤلاء المتورطين ب"إغراق" لبنان يحتلون الشاشات والساحات مقدّمين أنفسهم للبنانيين على أساس أنّهم المنقذون.

الأدهى أنّ هناك فئات من اللبنانيين الذين يحاولون النجاة من الغرق لا تزال تصدّق هؤلاء وتعدهم بأكثرية نيابية، مرّة جديدة!