كما هي العادة على امتداد العقود الماضية، كانت الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي بعد تقلده مهام منصبه إلى برلين، حيث التقى ماكرون المستشار الألماني شولتز اليوم، وكما كان متوقعا فقد انصب الحديث بين الزعيمين حول الحرب الروسية في أوكرانيا وآفاق التحرك الأوروبي على المستويات السياسية والعسكرية. ومن نافل القول إن كلا الرجلين عبرا عن دعمهما للحكومة الأوكرانية لكن ما كان لافتا للنظر موقفين؛ الأول متعلق بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فقد توقع الرئيس الفرنسي أن يستمر التفاوض بين كييف وبروكسل لعقود قادمة حتى تستطيع أوكرانيا الانضمام فعليا إلى دول الاتحاد، ولكن الرئيس الفرنسي تقدم باقتراح إقامة منظمة أوروبية سياسية تضم كافة الدول الأوروبية، تستطيع كييف الانضمام إليها مباشرة وتقوم هذه المنظمة بالتنسيق السياسي والعسكري والأمني. بالتأكيد الرئيس الأوكراني وشعبه لن يكونوا سعداء بهذه التصريحات بعد أن ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل علاقة مميزة مع أوروبا وبعد أن كرر زيلينسكي ليلا ونهارا أن بلاده تنتمي إلى العالم الحر والأنظمة الديمقراطية، ولكن هذا لم يشفع له، فما يطرحه ماكرون أن تسير كييف في طريق شاق وصعب ونهايته ليست مؤكدة. والتجربة التركية في محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لن تكون مشجعة للجانب الأوكراني. أما الموقف الآخر اللافت وربما حتى المفاجئ لكثيرين هو الخطاب اللين الذي استخدمه الرئيس ماكرون اتجاه روسيا وحتى نظيره الألماني شولتز، فقد ذكر الرئيس الفرنسي أنه لصنع السلام لا بد من الجلوس مع الروس والأوكرانيين على طاولة المفاوضات، وهذا السلام لن يتأتى من إذلال روسيا. هذه الرؤية الفرنسية التي عبر عنها ماكرون وحالة التردد الألمانية في ممارسة الضغوط على موسكو، ورفض المجر مؤخرا الموافقة على حزمة عقوبات جديدة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار مصالحها، كل ذلك يشير إلى حالة من الضبابية التي تلف الموقف الأوروبي، فالقارة العجوز تذهب في بعض الأحيان إلى أبعد مدى في التعبير عن الانخراط في هذه الحرب، ثم ما تلبث أن تتردد، كما هي العادة الأوروبية العتيدة. ومن المفارقات أن الرئيس الفرنسي لم يكد ينهي خطابه أمام البرلمان الأوروبي حتى انتقلت الكاميرات إلى البيت الأبيض حيث وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن قانون التأجير والإعارة لزيادة الدعم العسكري لكييف، بما يعني انخراط واشنطن أكثر فأكثر في هذا الصراع. صحيح أن ألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا ومن أكبر الاقتصاديات في العالم، وصحيح أن فرنسا البلد النووي ودائم العضوية في مجلس الأمن، وصحيح أيضا أن أوروبا مجتمعة الاقتصاد الأكبر في العالم، ولكن المؤكد أن هذا العملاق الاقتصادي هو قزم سياسي، والحرب الأوكرانية تثبت مرة أخرى أن الدور الأوروبي يدور في هامش ما تتيحه واشنطن. تذهب أوروبا حينا لتكون ملكية أكثر من الملك وتعتبر الحرب في البلد السلافي حربها، وأحيانا تبدو تائهة وهادئة وباردة.