من المؤكّد أنّ التوجّه الى صناديق الإقتراع في لبنان، ليس إيذاناً بالتغيير المنشود. هذا ما يعرفه أيّ لبناني، مهما كانت درجة حماسته للإنتخابات النيابية، حتى لو دفن قناعته هذه في أعماقه.

ولكنْ في السعي الحثيث إلى قيام دولة المساواة والعدالة والإستقرار والسلام والخدمات والعافية، لا مكان لليأس والإحباط والإنهزامية، إذ وحدهم هؤلاء الذين يتطلّعون إلى إبقاء الحال على ما هي عليه من المأساوية، خدمة لطفيليتهم أو لتبعيتهم، يُغذّون هذه المشاعر السلبية التي إذا ما سيطرت على أيّ شعب أنهته!

التوجّه اليوم إلى صناديق الإقتراع، حتى لو افتقد الى القدرة على إحداث التغيير المنشود، إلّا أنّه يحمل في ثناياه المفتاح السحري الذي يمكنه، لاحقاً، أن يفتح أبواب الأمل التي أقفلتها منظومة سلطوية فاسدة، وقوى حزبية خائبة، وميليشيات تستورد عقيدتها وأجندتها ومالها من محاور لا تتطلّع إلّا إلى إبقاء القطار اللبناني خارج السكّة لتكريسه متراساً في صراعات الهيمنة الإقليمية.

ويكمن سرّ هذا المفتاح السحري في استعادة اللبنانيين قدرتهم على الحلم، بعدما سرقت هذه المنظومة منهم أحلامهم ووضعتها في "قوارب الموت" وتركتها جثثاً في أعماق البحر المظلمة!

ولا يوجد أهمّ من أن يستعيد الشعب قدرته على الحلم، إذا صمّم أن يعيد بناء ذاته وإنقاذ وطنه، لأنّ من يستطيع نسج الأحلام ينجح في تكسير ما يظهر كما لو كان مستحيلاً، وهذا ما علّمنا إيّاه من أدرجتهم البشرية، على مرّ العصور، في قائمة...الخالدين!

في ختام هذا اليوم الإنتخابي، ثمّة من يعمل، بلا هوادة، على إظهار اللبنانيين كما لو كانوا "عَضاريط".

وكلمة عَضاريط سبق أن علّمنا إيّاها أبو الطيّب المتنبي في هجاء كافور الأخشيدي، عندما قال:" وأنّ ذا الأسْوَد المثقوبَ مشْفرُه تطيعه ذي العَضاريط الرعاديد".

والعضاريط هم هؤلاء الذين يعملون بطعامهم، ولا يبالون بأي شأن آخر، والمهم عندهم أن يملأوا بطونهم وينالوا مكتسباتهم، حتى لو كان من يوفّرها لهم من لا يستحق شرف القيادة والأمرة والتسيّد.

والشعب اللبناني، ولو كان فيه فعلاً مثل هؤلاء العضاريط، إلّا أنّه لم يكن يوماً بأكثريته الساحقة كذلك، بل هو ضحيّة من سبق أن أوهموه بأنّهم حملة برامج التغيير والإصلاح والحقوق والحرية والمعافاة والبحبوحة والعافية، وأحبّ أن يثق بهم، بعدما أرهقته الحروب والإحتلالات والوصايات والإغتيالات والقتل والتهجير والتدمير.

وسبق أن أكّد اللبنانيون أنّهم شعب تليق به الأوطان، سواء في 14 آذار/ مارس 2005 أو في 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 أو في غيرها من المناسبات الجليلة.

وفي مناسبة هذه الانتخابات، ليسوا قلّة هؤلاء الذين قرّروا أن يثبتوا أهلية الشعب اللبناني، وقد قدّم 142 ألف مقيم في الخارج ما يكفي من أدلّة، قبل أسبوع، ووحده فرز صناديق الإقتراع، في نهاية هذا اليوم، من شأنه أن يبيّن عدد هؤلاء الذين سوف يسعون إلى طرد "العضاريط" من الحياة السياسية اللبنانية، بعدما ملأوها حتى...الإشباع.

قبل شهرين كانت الكلمة العليا في لبنان لمقاطعة الانتخابات، لأنّهم وحدهم، هؤلاء الذين يريدون تجديد هيمنتهم الكارثيّة على اللبنانيين، كانوا يسيطرون على أكثرية وسائل الإعلام، من حيث ينشرون اليأس والإحباط ويمعنون في الإستخفاف بالآمال والأحلام.

ولكنّ الحال اختلفت نسبياً، عندما بدأ اللبنانيون يسمعون لغة سياسية يفهمونها، ويرون وجوهاً جديدة طالما تخيّلوها، ويطّلعون على أهداف واضحة يتبنّونها.

وقد قدّم المغتربون اللبنانيون درساً لا يمكن أن يغفل عن معانيه وأبعاده أهلهم المقيمون، فعادت الثقة التي كانت مفقودة باستعادة القدرة على نسج الأحلام، الأمر الذي أوجد دينامية يأمل كثيرون بإمكان تحوّلها الى مفاجأة مدوية، اليوم.

لقد أبلغ المغتربون في أصقاع العالم أهلهم المقيمين أنّ الهجرة ليست حلّاً، وأنْ لا بدائل حقيقية عن الوطن، وأنّ رجاءهم أن يصنعوا معاً حلماً جديداً يعيد لبنان مساحة حياة بعدما تواطأت عليه المنظومة السياسية والميليشياوية وحوّلته، عن عمد أو عن غباء، إلى جهنّم!

سوف يذهب "عضاريط" كثر الى صناديق الإقتراع اليوم أو يمتنعون عن ذلك، لكنّ هؤلاء الذين يريدون استعادة الحق بالحلم لن يتركوا الساحة لهم، لأنّهم يرفضون تنصيب سادة عليهم ينتمون الى فئات القتلة، الإغتياليين، مرتزقة الحروب، الطفيليين، الإنتهازيين، الإستغلاليين، المخادعين، التافهين، الأغبياء، السارقين والمقامرين.

اليوم، ليس مجرّد يوم انتخاب. إنّه أهمّ بكثير، فهو يوم الحساب.

في كل ورقة اقتراع حكم شعبي مبرم بحق كلّ من أوصل لبنان الى ما وصل إليه: حكم بحق من أساء إلى علاقاته العربية والدولية، حكم بحق من باع اللبنانيين أوهاماً على أساس أنّها برامج إنتخابية، حكم بحق من أوصل الى السلطة شخصيات كان يفترض أن تكون في مزبلة التاريخ، حكم بحق من حمى قتلة كان يجب أن يكونوا وراء القضبان الى الأبد، حكم بحق من تاجر بالقضايا الكبرى على قارعة صراع المحاور، حكم بحق كلّ من صمت عن حقّ من أجل منفعة، وحكم بحق كلّ من استخفّ بالمصلحة العليا من أجل مصلحته الشخصية أو العائلية.

إنّ الصوت المدوي بوجه هؤلاء يمكنه أن يفتح نافذة أمل في الجدار اللبناني المغلق.

والذاهبون الى صناديق الإقتراع بهذه الخلفية، ليسوا سُذّجاً ليتوهّموا أنّ من يريدون إسقاطهم سوف يستسلمون لإرادتهم. هم يعرفون أنّ التزوير محتمل، وأنّ الإنقلاب على أصواتهم جاهز، وأنّ تدفيع لبنان ثمن الخيارات الجديدة موضوع على الطاولة.

ولكنّ هؤلاء، في الوقت نفسه، ليسوا سُذّجاً أيضاً حتى يقدّموا أنفسهم ووطنهم ومستقبلهم، على طبق من فضّة لوحوش هذه المنظومة السلطوية، فاللحظة التي يمكن أن يستغلّها محتقرو صوت اللبنانيين، قد تكون مؤاتية لهم غداً، ولكنّها لن تكون كذلك دائماً، ولهذا فهم من أجل تجهيز الأرضية للظرف المؤاتي، يصوّتون، ومن أجل أن لا ييأس العالم من جدوى لبنان يصوّتون، ومن أجل أن لا يقوى دعاة المواجهة المسلّحة على رافعي رايات المواجهة الديموقراطية، يصوّتون!