ما أن ينصرم طوْر من اشتداد وطأة وباء كورونا على الأبدان والنفوس، فتنفرج الغُمة، ويُرفَع الإغلاق، وتُفتح الحدود والأجواء والمطارات، وتتبدى بشائر نهاية المحنة - أو هكذا يُخَيّل إلى الناس إذ ينصرفون إلى أعمالهم مطمئنين إلى غدهم - حتى يبدأ طوْر جديد أشدّ حدّة من سابقه وأدْعى إلى القلق مع تسارُع انتشار العدوى، ومهاجمتها الآفاق والأعمار كافة. وبين مدٍ وجزر، ويأسٍ وأمل، دارت دورة الوباء على مدار عامين غيّرت فيهما كل شيء: الطبائِع والأمزجة والمألوفات، ناهيك عن إيقاع الحياة العامة ودورة الإنتاج... من دون أن يَبِين في نفقها الكالح ضوء لأفقٍ قريب.

يتناسل الفيروس من بعضه فينجب أجيالاً جديدة من متحوّرات لا تلبث أن ترث سابقتها فتستأنف فعْلَ الفَتْك، بعد أن تكون قد ارتاضَت الارتياض الكافي على التّأقلم مع المقاومات التي تبديها الأجسام تجاه الفيروس، أو توفّرها اللقاحات وبروتوكولات العلاج التي يخضع لها المصابون به. وهو إذ يتناسل ويتحوّر، فإنّما يفعل ذلك داخل الأجسام البشرية؛ لأنّها بيئته الوحيدة التي يمكنه أن يعيش فيها. هكذا تصنعُ طريقته في الوجود والبقاء معادلة وجوديّة حادّة: نموت لكي يتمتّع الفيروس بحظّه في العيش، أو يموت هو كي نحيا ونستمر. ليس من حدٍّ ثالث وسط، ولا من تسوية بين كائنين متلاغييْن: الإنسان والفيروس. حتّى «البُشْرى» المريحة التي تطلقها «المنظّمة العالميّة للصّحّة»، والقاضية بوجوب حَمْل أنْفسنا على «التّعايش» مع الوباء لسنوات قادمة، لا تزيد النّفس إلاّ يأساً وتشاؤماً، ولا تقترح على البشريّة سوى أن تصير قطعان غزلان في غابةٍ من الأُسود والنّمور والوحوش الضّارية.

حين هلَّتِ البشائر، في خواتيم العام 2020، ببدايةِ النّهاية لمحنة الوباء الخبيث، انزاحت صخورٌ أناخت بكَلْكَلها على الصّدور عاماً كاملاً، وارتفع معدّل الرّجاء في أن يكون العِلم قد أصاب من النُّجْح قدْراً كافياً لمغالبة الوباء وإنقاذ حَيَوات ملايين البشر من مخالبه. وتعاظم الأمل حين استهلك النّاس شطراً من العام 2021 في تلقّي حُقَن اللّقاحات مَثْنًى وثُلاثاً، وهم مطمئنّون إلى ما تقوله بيانات المراجع الصّحّية، الدّوليّة والوطنيّة، عن فوائد التّطعيم ونسب النجاعة والفعاليّة في اللقاحات. هكذا خَلَد النّاس إلى بعضٍ من الطّمأنينة وباتوا على هدأةِ نفْسٍ غيرِ قريرة، ولكن من غيرِ بَلْبالٍ مُقِضّ.

ما لبثتِ الهشاشةُ أن دبّت في أوصال تلك الطّمأنينة حين أُعلِن عن ظهور متحوِّر دلْتا، وقيل إنّه قد يصيب حتّى الملقَّحين من غيرِ قَطْعٍ بمدى فعاليّة اللقاحات في جَبْه فتْكه. ثمّ تواتَرت وقائع إصابات الملقّحين، وقضاءِ بعضهم، فخَار الأمل وغار ثانيةً، حتى أنّ تواضع صورة اللقاحات، وتواضُع نتائجها في المطعَّمين بها، زَخَم حركات مناهضة التّطعيم، في العالم كله، ومكَّنها من حجّة جديدة تقيم بها البيّنة على مَن عالنوها الاعتراض وحرَّضوا السّلطات عليها. وما هي إلاّ أشهر، وقُبَيْل وداع العام 2021 بستّة أسابيع، حتّى كان أوميكرون - المتحوّر الجديد - يزحف على العالم بسرعةٍ تقارب سرعة الضّوء، ويَبْسُط سلطانه على إخوته وبني عمومته مكرِّساً عرْشه على بيئة الأوبئة جميعها؛ ربما في انتظار متحوِّرٍ جديد يطيح به.

وكما في السّابقات، أتى مَن يقول من أهل الاختصاص إنّ أوميكرون السّريع الانتشار والفُشُو أكثرُ رأفة بالأجسام من سابقيه، مستدلين على ذلك بنتائج علاج المرضى المصابين. ثمّ تَلاهم من قال إنّ فتْكه لا يكون إلاّ بغير الملقَّحين، وإنّ اللّقاحات التي وقَع تطعيمُ النّاس بها صنعت سدوداً حمائيّة في وجْه أذاه وعزّزت المِنْعَة ( المناعة) الطّبيعيّة للأجسام ضدّ ذاك الأذى. أمّا أكثر البشارات طَمْأنة للنّاس فأتت ممّن قالوا، من أهل العلم بالأوبئة، إنّ أوميكرون لن يلبث بعد يسيرٍ من الزّمن أن يتحوّل إلى فيروس موسمي عادي على شاكلة الإنفلونزا؛ بحيث يعالَج بالعقاقير والمضادّات الحيويّة، أو باللّقاح الموسميّ الذي يأخذه النّاس، خريفَ كلّ عام، لمقاومة الإنفلونزا.

قضينا عاميْن نتأرجح فيهما بين الحدود: نصدِّق إفادات العلماء والأطبّاء حول الفيروس ثمّ نميل، ثانيةً، إلى تصديق روايات خصومٍ لهم يشكّكون في إفاداتهم؛ نؤمن بالعلم ونعول عليه منقذاً ثمّ نكْفُر به ونُزري بقيمته! هل أَسَأْنا التّفكير والتّقدير؟ ربّما؛ ولكن على العلماء أنفسِهم أن يعترفوا بأنّ العِلم وُضِعَ أمام امتحانٍ لا سابق له. إنْ لم يَجْتَزْهُ بنجاح، فستفتحُ سَقْطَتُه البابَ من جديد أمام عصر السّحر والخرافة؛ وهذان قد يتجلّيان في أشكال «عصريّة» «حديثة»!