"لا حل فعال لأزمة الغذاء، إذا لم يعد الإنتاج الغذائي الأوكراني إلى الأسواق العالمية"
أنطونيو جوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة
كشفت الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا حقيقتين أساسيتين: الأولى، أن الأمن الغذائي العالمي يعاني هشاشة مرعبة. والأخرى، أن برامج الأمم المتحدة الإنمائية التي أطلقت مطلع القرن الحالي، لم تتماسك بعد رغم أنها حققت قفزات نوعية في كل الساحات، بما في ذلك تلك الخاصة بتأمين الغذاء المستدام، أو على الأقل الوصول إليه في حدود إمكانات الشعوب المحتاجة إليه، بدعم من الجهات الدولية المعنية. برامج الإنماء المشار إليها، رفعت في الواقع شرائح الفقراء بكل مستوياتها، ووفرت لها الأساسيات المطلوبة من التعليم إلى الدواء والغذاء وغير ذلك. وفي الأعوام الأخيرة من القرن الماضي، بلغت وتيرة التعاون الدولي في هذا المجال أعلى مستوى لها. وكلنا يذكر بالطبع الانفراجات الحقيقية على الساحة العالمية في تلك المرحلة.
الحرب في أوكرانيا، أعادت إلى الميدان المخاوف، ليس فقط من نقص الإمدادات الغذائية، ولا سيما الحبوب بأنواعها وفي مقدمتها القمح، بل إمكانية انتشار الاضطرابات الاجتماعية في هذا البلد أو ذاك. وهذه النقطة طرحتها بالفعل إدارة البنك الدولي، وطالبت بالتركيز عليها. ففي التاريخ الحديث شهد العالم سلسلة من هذه الاضطرابات أدت إلى ضرب الاستقرار في عديد من الدول، خصوصا تلك التي تعاني أساسا هشاشة اقتصادية، ومشكلات سياسية داخلية. حتى إن بعضها أطلق عليها تسمية "ثورة الخبز". فاللقمة كانت "وستبقى" الرصاصة الأولى في أي تحرك أو انتفاضة أو ثورة ضد الأوضاع المعيشية السائدة. حتى إن الاضطراب السياسي الناجم عن ارتفاع أسعار السلع الغذائية، لحق بالدول المتقدمة، وهو يصيب الآن حكوماتها التي تخشى الخروج من الحكم على هذه الخلفية.
العالم كان يعرف بالطبع أن روسيا وأوكرانيا تسهمان معا بنحو ربع تجارة الحبوب العالمية، وكان طبيعيا أن تتباطأ الصادرات من كلتا الدولتين منذ بدء الحرب بينهما، فضلا عن قيام القوات الروسية بحجز ملايين الأطنان من الحبوب في الموانئ والمرافق التي سيطرت عليها في أوكرانيا، ما فاقم الأزمة، وكشف في الواقع ضحالة مخزونات الحبوب، ولا سيما القمح في أغلب الدول التي تستورد هذه المواد الأساسية. بعض هذه الدول لا يبلغ الاحتياطي فيها من القمح "مثلا" أكثر من شهرين، وتلقت ضربات عنيفة بسبب الارتفاع الهائل لأسعار القمح، خصوصا في الأيام الأخيرة عندما أعلنت الهند وقف صادراتها من القمح، ما ضغط على الأسواق أكثر، علما بأن هذا البلد لا يعد من الدول الرئيسة الأولى في إنتاج وتصدير القمح.
والذي أسهم في الأعوام الماضية في تخفيف الضغوط في سوق القمح تحديدا، أن روسيا ضاعفت في العامين الأخيرين من العقد الماضي حصتها في هذه السوق أربع مرات، بصادرات بلغت أكثر من 35 مليون طن، بينما بلغت صادرات أوكرانيا 20 مليون طن. لكن مع استمرار الحرب في أوروبا، سيتراجع الإنتاج بالتأكيد، ليعمق أكثر مشكلة سلاسل التوريد التي يواجهها العام منذ أكثر من عامين. لتزداد بالطبع الضغوط المتصاعدة في ساحة التضخم. فارتفاع أسعار الحبوب زاد بالضرورة من تكاليف المعيشة في كل الدول دون استثناء، وإذا ما أضفنا إلى ذلك أسعار الطاقة والخدمات الأخرى التي تواصل الارتفاع، فالعالم اليوم أمام معضلة كبيرة مكونة من طرفين: الأول، التضخم بكل أعبائه. والآخر، تراجع إمدادات الغذاء مع ارتفاع أسعاره.
سيتخطى العالم بالتأكيد الآثار التي يتركها التضخم يوميا، لكن التكاليف ستكون مرتفعة، خصوصا أنها تأتي في وقت يتراجع فيه النمو، وفي بعض الدول ظهر الركود مجددا بعد أشهر معدودة من انتعاش ما بعد جائحة كورونا. لكن النقطة الأهم من هذا وذاك، مصير الأمن الغذائي العالمي. فبدائل الحبوب ليست سهلة، والقمح خصوصا لا يمكن العثور على بدائل له. صحيح أن الولايات المتحدة "مثلا" خفضت في الأعوام الماضية من إنتاج هذه المادة الحيوية، وأطلقت موجة من إنتاج الذرة وفول الصويا، لكن هذا البلد يملك الإمكانات اللازمة لتحقيق تحولاته هذه، في حين لا تتوافر هذه الإمكانات في أغلب الدول. ولم يكن أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة مبالغا حين قال "إذا لم نطعم الناس، فإننا سنؤجج الصراعات". وهذا بالتحديد ما تشير إليه دائما المؤسسات الدولية المختصة.
ولا مبالغة أيضا في القول، إذا استمرت الحرب في أوكرانيا لمدة طويلة، فإنها تهدد بدفع عشرات الملايين من البشر إلى انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية والمجاعة أيضا. فالمشكلة لا تنحصر في نقص القمح فقط، بل ارتفاع أسعاره أيضا التي زادت 60 في المائة هذا العام، ومن المتوقع أن تواصل التحليق للأعلى في العام الجاري. ما يجري حاليا في ميدان الحرب المشار إليها، أعمال أدت بالفعل إلى تبوير الحقول الأوكرانية، وتدمير مخازن الحبوب، وقصف طرق النقل، وإغلاق الموانئ، بل حجز ملايين الأطنان من القمح. ولا يمكن أن يتحدث العالم مجددا عن الأمن الغذائي العالمي، طالما واصلت الحرب رحاها بين قطبين أساسيين لإمدادات الحبوب الأساسية.
- آخر تحديث :
التعليقات