على عكس ما يظن البعض، فإن فتح النقاش الوطني والسياسي مجدداً في مسألة الاستراتيجيّة الدفاعيّة في يوم عيد النصر والتحرير هو ليس مجرّد مصادفة زمنيّة. فهذا النصر الكبير في دحر الاحتلال الإسرائيلي في أيّار من العام 2000 ما كان ليتحقق لولا تضحيات تراكميّة ونضاليّة كبيرة بدأت منذ عقود وتُوجت في هذا الانجاز الذي لم يكن هناك من مثيل له في العالم العربي.

أن يحرّر لبنان، الدولة العربيّة الأضعف بمعظم المقاييس، أرضه المحتلة دون قيد أو شرط، ودون توقيع معاهدة سلام أو إتفاقيّة تطبيع، هو إنجاز كبير وتاريخي، ومسؤوليّة اللبنانيين جميعاً الحفاظ عليه من أي حقد إسرائيلي لا يزال قائماً ضد التجربة التعدديّة اللبنانيّة المعاكسة للآحاديّة الصهيونيّة.

ولكن، الحفاظ على هذا الانجاز يحتّم الحفاظ على الصيغة اللبنانيّة بديمقراطيتها، مهما كانت هشّة، وتعدديتها وتنوّعها التي لولاها لما إستطاعت المقاومة الإسلاميّة، التي إحتكرت المواجهة لأسباب وأسباب إقليميّة ومحليّة، أن تحقق هذا الإنجاز. وتصحيحاً للكثير من الوقائع التاريخيّة، هذه المقاومة بنت إنجازاتها على المقاومة التي أطلقتها ضد إسرائيل أحزاب وطنيّة في مرحلة سابقة. التاريخ لا يزال يشهد على ذاك البيان الشهير الذي أطلق عمليّة المقاومة من منزل كمال جنبلاط من قبل الراحلين الكبيرين الشهيد جورج حاوي والمناضل محسن إبراهيم.

الإحتلال إياه لم تتم مواجهته في دول مجاورة، وفي طليعتها سوريا، منذ عقود. السبب بكل بساطة أن الدولة (أو النظام) لم يكن ليسمح لأي فصيل عسكري أو أمني (لم يكن موجوداً أصلاً) بأن يفتح جبهة الجولان دون قرار مركزي من السلطة في دمشق. حتى مع تفلت الوضع في سوريا من يد النظام لسنوات طويلة وتحوله إلى اللاعب الأضعف داخل الساحة السوريّة قبل أن يستعيد قوته تدريجيّاً بفعل التدخل الروسي بدءاً من العام 2015؛ لم يسمح النظام بإطلاق رصاصة واحدة لتحرير الأرض.

يُضاف إلى ذلك أن إسرائيل تنتهك السيادة السوريّة وتقصف قوافل سلاح ومؤن عسكريّة وقلما يصدر أي رد عسكري سوى «الاحتفاظ بحق الرد»، وهي أصبحت نكتة سمجة تعود إلى سنواتٍ خلت. طبعاً، ليس المطلوب التماثل بالنموذج الإنهزامي السوري الذي لا يعرف من مفهوم المقاومة سوى الكلام السياسي للإستهلاك الشعبي، وهو بدوره أصبح مفضوحاً ولا ينطلي على الشعب السوري بطبيعة الحال.

المهم الآن أن مصلحة لبنان الوطنيّة العليا لا تتحقق عندما تكون وظيفة الدفاع عن أراضيه منوطة بفصيل مسلح له أجندته الخاصة المرتبطة بعواصم إقليميّة، ولا تتأمن من خلال مصادرة الفصيل ذاته لقرار الحرب والسلم في الدولة. تخيّلوا أي دولة في العالم تقبل هذا الوضع الشاذ. تخيّلوا لو إيران ذاتها تقبل هذا الوضع: أن مجموعة مسلحة بداخلها تتبع باكستان أو أفغانستان دون علمها وموافقتها. وسوريا، كما سبقت الإشارة، لم تسمح به. لماذا فقط على اللبنانيين أن يدفعوا الأثمان تلو الأثمان؟

من مصلحة لبنان الإستفادة من قدرات المقاومة الدفاعيّة لصد أي عدوان إسرائيلي محتمل، ولكن من الواجب أيضاً أن ينضوي السلاح في الأطر الرسميّة للدولة اللبنانيّة. هذا الأمر ليس مستحيلاً ولكنه حتماً لن يكون مجانياً. ثمّة أثمان سياسيّة ممكن أن تُطلب مقابل هذه التسوية التي هي المدخل الحتمي لقيام الدولة المنتظرة.

من قال إن منطلق النقاش في أية خطة دفاعيّة هو نزع سلاح «حزب الله»؟ لماذا لا تكون المقاربة إستيعابه والاستفادة منه؟ إلى متى ستبقى الخيارات السياسيّة والعسكريّة متفلتة من الدولة المركزيّة؟ إن أفضل سبيل صون الانتصار تكون بإقرار استراتيجيّة دفاعيّة اليوم قبل الغد.