تستخدم الدكتورة نادين عبدالله، الاستاذة في الجامعة الاميركية (القاهرة) تعبير “استحالة الحياة اليومية” في وصف زيارتها الأخيرة ل#بيروت. هذ ا هو الانطباع الأهم لدى الزائرين، فما هو إنطباع المقيمين في المدينة، التي تقول الدكتورة عالمة الاجتماع، أنها كانت “بهجة المدن”. تبارى الزملاء العرب والمراسلون الاجانب في رثاء بيروت التي عرفوها، وسوف تبقى المناحة قائمة مثل مناحة الاندلس، لأنها مثله لن تعود، ولا قيامة. وما زال المسؤول عن الوفاة يقول ان القاتل هو النظام.

يكتب نديم شحادة في “اراب نيوز”، أن لبنان كان متفوقاً في المورد الاقتصادي على دول اوروبية مثل ايطاليا، واسبانيا، واليونان. ويستذكر يوم كانت ثغور المشرق الثلاث سميرنا والاسكندرية وبيروت، تستقطب اليها رجال الفكر والمال والابداع من حوض المتوسط وما وراءه. ماتت سميرنا (ازمير)، وتلاشت الاسكندرية، والآن تذوي بيروت، يوم تغير النظام وغابت الحريات. النظام هو الذي احيا لبنان، الذين اماتوه هم الذين حولوه الى نسخة مافيوية، الارادة فيها للخوات والقسوة والظلم الاجتماعي والغطرسة والتحاصص. ليس النظام من غيَّر وجه لبنان وروحه وسعته ودستوره، وإنما الذين انقضّوا عليه. لأنه شاهد على الفارق بين ما حققه، برغم ثغراته، وبين ما حدث لدول المنطقة من فشل وتراجع في حركة الحياة، من علم وثقافة، وخصوصاً من اقتصاد.

هذا ما جعل فوز 14 تغييرياً مروا من خروم قانون صفيق، مسمّى تفضيلياً، نقضاً لروح كل قانون وديموقراطية ومساواة، جعله يبدو انتصاراً تاريخياً. الذي انتصر، ليس النظام، ولا خصوم النظام، انتصر افراد يؤمنون بالحرية، وما يليها، من قيم واخلاقيات وآداب مدنية.
تحوّل فوز 14 شاباً الى انقلاب على دعاة المدنية من اعدائها الطبيعيين لأن لا مكان لهم فيها ولا ظل ولا حتى قناع. لا يغيّر الكذب مهما ألح وألج وكرر، شيئاً من جمال الحقائق. وهي لم تخلق لهم. هي صبورة ونبيلة وصادقة، والببغاوات لا تبني دولاً، ولا اوطاناً. والجسور يبنيها الطيبون.

الصغار وكلاء تفليسة. تجّار ظلمة، باعة وهم. الذين يخربون الأوطان هم الجهلة ببنائها. أما الأنظمة نفسها فمجرد نصوص. إما يتولاها أمناء أو محتالون. وعندها تكون النهايات واضحة وحتمية.

هذا ما لديهم وهذا ما يقدمونه. أنتُخب ابراهام لنكولن، فأُخذ رئيساً للإنسانية وللتاريخ، انتخب دونالد ترامب فأخذ سمساراً، وعقل سمسار، ومشاعر سمسار، ومنطق سمسار. مع هذا المستوى من الثقافة والاخلاق، تهبط الدول من دون قعر. ولا تعود الجوائر التسع التي تخيلها دانتي اليغييري، تكفي لوصف حال الذين دفعوا إليها. عندها ( واعتذر عن اي مرجلة ثقافية، للضرورة) عليك ان تقرأ “اوفيد” في وصف حالات الاهتراء في الطريق المفتوح الى جهنم. طل من النافذة قليلاً. “قلب الظلمة” كما سماه جوزف كونراد، بيروت معتّمة مثل عمى القلوب.
لا بد من الاقتناع بعد الذي حدث ان المجد للفرد على الأرض. 14 تغييرا مستقلاً يرفعون راية الحرية. هي الطريق الوحيد. الاحزاب والكتل والتجمعات رفعت علامة الانكسار وسمّته ما تشاء، حيثما كانت حرية كانت كفاءة، وكان جمال وعدل. وكان من بدائعها ان تجلس ريما عبد الملك، المهاجرة من شيخان، على كرسي اندريه مالرو. وهي ليست مالرو. ليست كوليت. ليست هي التحفة. لكن ليس قليلاً ابداً ان تعيّن ابنة بلاد جبيل امينة على اغنى متحف ثقافي في العالم. امينة على كنوز فرنسا وهيغو وديكارت والأدب والفكر والثورة وفولتير وبلزاك وصاحب مدام بوفاري.

لمع اللبنانيون في فرنسا في الماضي، في السباق الحر. السباق الخلاّق. جورج شحادة وامين معلوف واندريه شديد. لكن هنا السباق منظم والقواعد صارمة والشروط صعبة. هذه وظيفة للجمهورية، وليست قصيدة جميلة، أو رواية أو سحرا من فانتازيات جورج شحادة وعالمه.
لو اخطأ ماكرون في اختيار عبد الملك لقامت قيامة الفرنسيين ونرفزتهم وتأففهم. تحية طيبة، وانحناءة حتى الأرض. قبل ان يغيب لبنان الذي عرفناه، علّمنا ألا ننحني لشيء أو لأحد، إلا الحرية. قال لنا في وصيته، لا حياة لكم من دونها ولا فرح ولا ابداع. نحن لن ننسى للفرنسيين انهم بعد اربعة قرون تركية، منعت خلالها المدارس، والمطابع،علمنا الفرنسيون في مدارسهم كيف نطلب الحرية والمساواة. وكيف حرّضونا على الحياة المدنية، مليون سنة قبل هذه البواجيق الفارغة المعربشة على هوامش العقول والثقافات.

هل ريما عبد الملك هدية فرنسا لنا، أم هديتنا لها؟ هل هي من أشار على ايمانويل ماكرون ان يعزي فيروز بمرفأ بيروت، وأن يردد في منزلها “بحبك يا لبنان”؟ ليس مهماً. المهم أنه هو اوكل اليها العناية بشؤون الاكاديمية والبانثيون ومئوية سيلين. ورواية كاموعن جنازة امه، الغسالة التي لا تقرأ.

وفيما تُرسَل التحيات الى السيدة التي اعطتها فرنسا كرسي اندريه مالرو، لا يفوتنا في الوطن رفع التحية الى المطرب معين شريف، الذي منحه رئيس الجمهورية، وساماً عالياً لما قدمه في سبيل لبنان و”الاغنية الهادفة”.