تناولنا في أربع مقالات سابقة خطورةَ المجازفة في التعامل بالعملات الرقمية «الكريبتو»، بسبب المخاطر العالية التي ستترتب على هذا النوع من التعاملات التي لا تحدها قوانين أو تشريعات تنظم تعاملاتها التي يكتنفها الغموض والتلاعب والمضاربات.

ومؤخراً حدث ما أشرنا إليه من مخاوف، حيث خسر ملايين المتعاملين أموالهم واستثماراتهم بعد الانهيار السريع لأسعار العملات الرقمية التي فقدت منذ شهر نوفمبر الماضي تريليون (ألف مليار) دولار وفق صحيفة «وول ستريت جورنال»، حيث خسرت هذه العملات التي تجاوز عددها خمسة آلاف عملة، في مقدمتها الأكثر شهرة «البيتكوين»، أكثرَ من نصف قيمتها خلال الفترة المذكورة.

ورغم تحذيرات العديد من المؤسسات، بما فيها البنوك المركزية، كالبنك المركزي الأوروبي، فإن حمى البحث عن ثروة سريعة وسهلة وضع نوعاً من الغمامة السوداء على وجوه الباحثين عن وهم الثروة، ما أدى إلى خسارة مدخراتهم، بل أدخل البعض منهم في دوامة القروض المرهقة لسنوات طويلة قادمة.

ومما زاد في التهافت على شراء العملات الرقمية، وبالأخص من قبل الشباب في مختلف بلدان العالم، الدور الإعلامي الذي صوّر هذه العملات وكأنها مغارة «علي بابا»، كما استغل بعض المشاهير، بمن فيهم بعض الإعلاميين، هذه الموجةَ فعمدوا إلى إطلاق عملاتهم الرقمية والترويج لها تحت مسميات وطنية وتراثية للفت الانتباه وتشجيع عملية الشراء، تلك الخدعة التي انطلت على الكثيرين من أصحاب النوايا الحسنة! وبعد أن جمع هؤلاء المشاهير عشرات الملايين ببيعهم عملاتهم الرقمية الوهمية تلاشوا عن الأنظار فجأةً، بل إن بعضهم ترك وظيفته لأنه ببساطة لم يعد بحاجة إليها بعد أن أصبح مليونيراً، أما قيمة العملة التي أطلقها فتساوي صفراً الآن!

وبما أن هذه العملات لا تخضع لأية أنظمة أو قوانين، فقد وقف الخاسرون مكتوفي الأيدي، إذ لا بنوك مركزية أو مؤسسات مالية أو محاكم يمكنها اللجوء إليها للمطالبة بحقوقهم وبعمليات النصب التي تعرضوا لها. وبالتأكيد، فإن مَن استمع لصوت العقل والتفكير السليم، تجنَّبَ الخسائرَ، وبالتالي حافظ على أمواله ومدخراته بعيداً عن عمليات الاحتيال.

ويمثل كل ذلك تجربةً قاسية لا بد من الاستفادة واستخلاص الدروس والعبر منها، إذ إن ما حدث من انهيار في سوق العملات الرقمية، ما هو إلا جولة سبقتها جولات وستعقبها جولات أخرى قادمة وسينضم «كريبتيين» جدد، بل قد يعاود الكريبتيون القدماء الكرَّةَ مرةً أخرى تحت تأثير الإعلام والإغراءات التي يروّج لها من خلال أمثلة وتجارب لأشخاص وهميين حققوا ثرواتٍ كبيرةً بتعاملاتهم بالكريبتو، كما سيَبرز قادةٌ كربتيون جددٌ سيطلقون عملاتِهم الرقميةَ تحت مسميات مختلفة لجذب الانتباه، وتحقيق أرباح كبيرة وسريعة.

لذا تشكل هذه الظاهرة خطراً اقتصادياً واجتماعياً لا بد من معالجته ووضع التشريعات والقوانين، رغم صعوبة المحاسبة بسبب وجود قادة الكريبتو خارج النطاق الجغرافي وفي عالم افتراضي مبهم يصعب الوصول إليه، مما يعني أن التوعية هي الحل الأجدى للمحافظة على مدخرات واستثمارات الأفراد، والتي تشكل أهميةً كبيرةً للاقتصادات المحلية، إذ إن تسرّب أموال كبيرة سيفقد الاقتصادات المحلية موارد استثمارية كبيرة يمكن تسخيرها لخدمة التنمية وضمان المستويات المعيشية العامة للأفراد.

أما اجتماعياً، فإن بعض الفئات يمكنها تحمّل الخسائر بفضل الثراء الذي تتمتع به، غير أن الأغلبية الساحقة ستنضم إلى الفئات الاجتماعية الدنيا التي ستحتاج إلى المساعدة بعد أن كانت تتمتع بمستويات معيشية جيدة بسبب فقدانها كاملَ مدخراتِها، وهو ما سيشكل عبئاً اجتماعياً قد تتولد عنه تداعيات غير مرغوبة تؤدي إلى خلخلة البنية الاجتماعية.

وبانتظار الجولة القادمة من الكريبتو يترتب على الكربتيين القداماء والجدد إعادة التفكير باختيار سبل الاستثمار الصحيحة والمجدية، والتي يمكن من خلالها تحقيق عوائد جيدة، وهي متوافرة في مختلف الدول، وبالأخص في دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع بتشريعات وقوانين وأنظمة تحمي المستثمرين وتوفر لهم بيئةً استثماريةً مناسبةً ومربحةً.

*خبير ومستشار اقتصادي