احتفالات المملكة المتحدة، وبقية الكومنولث، باليوبيل البلاتيني لتتويج الملكة إليزابيث الثانية، تستمر حتى اليوم (الأحد). وبالقول الإنجليزي الشهير، سأستبدل بقبعة الصحافي قبعة المؤرخ.

سألقي بعيون المؤرخ نظرة على عقد كامل قبل تتويج 1953؛ عقد بداية تعرف العالم بإليزابيث، كأميرة، وشقيقتها الأصغر، مارغريت روز، دوقة سنودون (1930 - 2002) أثناء الحرب العالمية الثانية بجانب والديهما، الملك جورج السادس (ألبرت فريدريك أرثر جورج 1895 - 1952).

وما بين أول رئيس وزراء، زعيم العالم الحر في الحرب، تشرشل (السير ليونارد سبنسر تشرشل 1874 - 1965)، ورئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، كلفت الملكة اثني عشر زعيماً سياسياً منتخبين ديمقراطياً من الشعب بتشكيل ست وعشرين حكومة، تسع عمالية، وواحدة ائتلافية، وست عشرة محافظة.

بنظرة المؤرخ السياسي، استرجعت العقود الثمانية التي عرف العالم فيها إليزابيث ألكسندرا ماري ويندسور، كأميرة وولية عهد الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، منذ اضطلاعها بمهام تنحني لها أكتاف رجال أشداء، وهي لا تزال فتاة لم تكمل الرابعة عشرة عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكيف التصقت الصورة والانطباع عن ابنة جورج السادس الكبرى في أذهان الناس بالحقبة التاريخية ومرادفاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل واللغوية، بالعقد الذي تعرفوا فيه على إليزابيث.

أذكر أمي، وكانت تكبر الملكة بأكثر من عقد، وحتى وفاتها في 2003 دائماً ما تصفها أو تذكرها بـ«البرنسيسة (الأميرة) إليزابيث»، ولا تشير إليها كـ«ملكة إنجلترا» إلا نادراً. والتعبيرات اللغوية والمفردات تعكسها أيضاً الثقافة الزمنية للأجيال المختلفة. فالجيل الأكبر في مصر (مواليد القرن التاسع عشر حتى مواليد منتصف القرن العشرين) يقولون إنجلترا، لا بريطانيا أو المملكة المتحدة، والإنجليز لا البريطانيين، فهي الترجمة الذهنية باللسان المصري للفرنسية (l›anglais)؛ فهذه الأجيال من المصريين ثقافتهم الاجتماعية، ونظام التعليم وتفكيرهم الجماعي والوسائل الصحافية التي شكلت الرأي العام على مدى مائة وسبعين عاماً كانت فرنسية، شكلت مفردات اللغة اليومية المصرية، من مواصلات، ومقاهٍ وطعام وأثاث منزلي وثياب.

فترديد جيل أمي، من ذكريات اللاوعي، تعبيرات كـ«البرنسيسة إليزابيث»، و«ملكة الإنجليز»؛ يعكس تفكير ولغة العصر الذي بدأ فيه التماهي التعرفي (identifying with) مع إليزابيث. عرفها أهل الاسكندرية كـ«البرنسيسة إليزابيث» أثناء الحرب العالمية الثانية؛ أيضاً فترة رؤية الجيل الأكبر البريطاني فيها رمز الصمود النسوي عندما وقفت بريطانيا وحدها تصد جحافل النازية لثلاثة أعوام قبل دخول أميركا الحرب (مثلاً قنوات التلفزيون البريطانية أثناء اليوبيل البلاتين تعرض عشرات من أفلام أبيض وأسود، من فترة الحرب الثانية عن الصمود والمعاناة). والإسكندرية كانت المدينة الوحيدة خارج بريطانيا، التي تعرضت لقصف مكثف مدمر من «اللوفتوافا» (سلاح الجو الألماني) بمساعدة سلاح الجو الإيطالي من الصحراء الليبية، وتهدمت الكثير من المباني، وسقط العديد من الضحايا بين السكندريين من مختلف العرقيات والأجناس والأديان. وعلى الرغم من أن مصر الداخلية (خارج الإسكندرية) كانت منقسمة بين دعم الحليف البريطاني (بمقتضى معاهدة 1936) وبين دعم «المحور»، خصوصاً في الريف ومناطق نفوذ تيارات ذات ميول فاشية ونازية كجماعة «الإخوان»، وجمعية «مصر الفتاة»، فإن الغالبية الكبرى من أهل الإسكندرية كانوا مع الحلفاء الإنجليز. وتطوع كثير من نساء إسكندرية من كل العرقيات في أعمال كالتمريض أو المجهود الحربي، وتابعن بإعجاب صور البرنسيسة إليزابيث وشقيقتها مارغريت (في الصحف والمجلات وشريط الأخبار المصور الذي عرض في دور السينما في الإسكندرية قبل اختراع التلفزيون). فالأميرتان تطوعتا في التمريض العسكري، وإليزابيث قادت عربة إسعاف، وتعمل في ورش إصلاح السيارات الحربية. أثناء الحرب تجاوزت هذه الصور دورها كحافز لرفع الروح المعنوية، تحت قصف الغارات إلى نوع من تماهي نساء الإسكندرية المتطوعات في التمريض والمجهود الحربي مع إليزابيث، حتى بعد تتويجها ملكة. وازدحمت دور السينما في الإسكندرية بمتفرجين (أكثرهم من النساء) لمشاهدة فيلم تتويجها في يونيو (حزيران) 1953.

وتذكرنا لهذه الحقبة ليس فقط «نوستالجيا»، فمؤرخ مثلي يتجاوز تعريفه لـ«النوستالجيا» من مجرد «الحنين للماضي»، إلى «استرجاع انتقائي لزمن تغلب الإيجابيات على السلبيات، مع تأكيد الذاكرة على استرجاع العوامل التي أدت لنجاح الإنسان». والإنسان بطبيعته يفضل البقاء، ذهنياً وثقافياً، فيما يعرف بمنطقة الاطمئنان، التي قد تكون زمنية أو جغرافية، أو حتى في علاقة عاطفية أو صداقة، أو بين أفراد العائلات الممتدة، كتفضيل صداقة ابن الخال على صداقة ابنة العمة مثلاً. وهو ما يفسر انتقاء معلقي الصحف، وحتى الناس العادية، لفترات معينة من العقود الثمانية من معرفة العالم بإليزابيث الثانية.

قبل انتخابات 1983 في بريطانيا، أخبرني رئيسي في الديسك الخارجي في صحيفتي الإنجليزية اللندنية بتلقيه تكليفاً تعاقدياً من «الأهرام» العريقة، التي تأسست في 1875 بالإسكندرية على يد الأخوين سليم (1849 - 1892) وبشارة تكلا (1852 - 1901)، بعمل استطلاع لآراء البريطانيين من أصل مصري، ومزدوجي الجنسية، عن اتجاهات التصويت بينهم. وكانت الأحزاب الأهم وقتها: المحافظون، والعمال، والليبراليون الذين دخلوا في تحالف انتخابي آنذاك مع الديمقراطيين الاشتراكيين المنشقين عن العمال.

فتبين أن أكثر من الثلثين يصوتون باستمرار للحزب نفسه الذي كان في الحكم يوم وصلوا بريطانيا (أربع حكومات عمالية، وثماني محافظة منذ تتويج إليزابيث) بصرف النظر عن أداء الحكومة وبرنامج المعارضة البديل. فمعظمهم تركوا مصر، قسراً، أو بطواعية المضطر، في عقد الخمسينات وبعد حرب السويس (1956 - 1963) وأثناء السبعينات، إما للدراسة أو لأسباب اقتصادية.

وكنت ناقشت مع مصريين كتابي السادس الصادر حديثاً عن تاريخ الاسكندرية ما بين 1939 – 1960، فوجدت أن مواليد ما بعد 1960 يتساءلون بدهشة عن ارتفاع نسبة من وصفوهم بـ«أجانب» على حساب من وصفوهم بـ«مصريين» في كتابي كاجتهادي للتأريخ للفترة، لكن المشاركين الأكبر سناً في الندوة، أفهموهم أن الأسماء التي بدت لهم أوروبية كانوا مصريين بالمولد والثقافة والانتماء، واللغة بالمفردات المصرية بلا أي لكنة أجنبية.

نموذج آخر لتغير ثقافات أجيال في ثمانين عاماً من تعرف العالم على إليزابيث الثانية تغيرت أثناءها أيضاً التعريفات اللغوية وخرائط البلدان؛ بل استبدلت أسماء دول قديمة كانت ثابتة لآلاف السنين.