في كتابه (الإسلام في عالم متغير) يقول المفكر الإسلامي أبو الحسن الندوي (باعتباري تابعًا لدين لا يمكنني أبدًا أن أقبل وضعاً يستجيب فيه الدين لكل تغير، لأن الدين ليست وظيفته أن يكون سجلًا لتغيرات الأزمنة. الدين يقر التغيير كحقيقة واقعية ويتقدم مع الحياة يدًا بيد، ولكنه ليس تابعًا للحياة، بل وظيفته أن يميز بين تغيير سليم وآخر غير سليم، وفيما إذا كان هذا التغيير نافعًا أو ضارًا).

وفي اليهودية تطرق المفكر اليهودي سامسون هرش إلى أن نهاية اليهودية كدين هو في مسايرتها لتغيرات العصر، فالتغيير يصير صحيحًا إذا كان في إطار الدين، ولن يكون الدين صحيحًا إذا استجاب لكل تغيير.. أو حين قال: (إن الدين في نظرهم صحيح ما دام لا يتعارض مع التطور وفي نظرنا التطور صحيح ما دام لا يتعارض مع الدين).

فالإنسان في كل عصر يعتبر عصره عصرًا جديدًا، والعصر السالف عصراً تشوبه (الماضوية) السلبية وربما القصور الحضاري، والعصر الجديد هو العصر المتحضر، هذا الظن الخاطئ وقع فيه الإنسان في كل عصر رغم أن الإنسان لم يحل عليه أي تبدل منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا، فالذهنية هي نفس الذهنية، والتفكير هو نفس التفكير، والأهواء نفس الأهواء، والمواهب نفس المواهب، إذ إنه لم يدخل أي تعديل على عقلية الإنسان، إذ لم يتبدل أسلوب تفكيره ونظرته إلى الأشياء، وإذا طرأ تغير فهو تقني.

ولكن ترجع فكرة علاقة الفكر الديني بالعصر للمدرسة العصرانية التي أسسها سيد أحمد خان.

فقد تناولت دراسة (مفهوم تجديد الدين) بالتحليل والنقد أسس وأفكار وطرائق ومناهج تلك المدرسة الفكرية والتي تقوم على فكرة أن التقدم العلمي الحاضر والمعارف المعاصرة يستلزمان إعادة النظر في الفكر الديني القديم، وتأويل تعاليم الدين لتتلاءم مع معارف وظروف العصر السائدة.

والمتأمّل في هذا التعريف يرى أنه يقوم على فرض أساسي، وهو أن العصر الحاضر بظروفه وأحواله، وعلومه ومعارفه، وتقدمه وتطوره، لا يناسبه ولا يتلاءم معه الفكر الديني التقليدي القديم، الذي نشأ ويكون متأثرًا بظروف عصره. وإذ كان ذلك الفكر صالحًا لذلك الزمان فإنه ليكون صالحًا لهذا العصر فلابد من إيجاد المواءمة بينه وبين الظروف الجديدة المتغيرة، وقد تكون هذه المواءمة بإعادة تفسير وتأويل بعض تعاليم الدين، وإعادة تكييف الدين على ضوء ظروف ومعارف العصر السائدة.

وقد تبنى العصرانيون الجدد أفكار وتعاليم وطرائق تلك المدرسة معتبرين عصرنا الحاضر عصراً متطوراً متقدماً، وشهد تحولات وتغيرات كبيرة. وتعاليم الدين - في عرفهم - في كل عصر ترتبط بظروفه وأحواله، مما يجعل بعضها لا يناسب عصرنا الحاضر، وما كان يؤمن بأنه حق في عصر قد لا يكون حقًا في هذا العصر.. وبناء على هذا التصور يأتي التساؤل، ما الثابت في الدين، الذي يناسب كل عصر، وما المتغير الذي يتغير تبعًا لتغير المعرفة وتغير الأحوال؟

ولكن ما يقوله العصرانيون ليس نظريات دينية، بمعنى أنها لم تتولد أساسًا نتيجة تفكير ديني، أو جاء بها وحي إلهي، إنما نظريات فكرية فلسفية نشأت خارج الدين وعلى وجه الدقة فإنها من نظريات علم الفلسفة وعلم الاجتماع الغربيين، فمبدأ التطور والمذهب النسبي وعلم اجتماع المعرفة وأمثالها كلها ذات تأثير عميق في أفكار العصرانيين الجدد، وقد شيد بناءها فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع فيه ولا يزال الجدل يحتدم حولها، ولها أنصارها ومؤيدوها، ونقادها ومعارضوها، وعلى هذا البناء الذي لم يستقر بعد ولم يعترف بأنه حقائق علمية ثابتة، يقيم العصرانيون الجدد فكرهم وتعاليمهم عليه.

ولكن ليس هناك من شك أن الدين يساير المعرفة البشرية في اتساعها ولا يتناقض مع اكتشافات العلوم الجديدة، مهما تكاثرت وتعددت، ولكن القضية بالتعميم الذي ينادي به العصرانيون الجدد يحتاج إلى نظر، فما حقيقة معارف العصر التي يدعونا العصرانيون أن نطرح من أجلها تراث الدين في العصور الماضية؟

فالإعجاب الكبير والثقة المفرطة بمعارف العصر تتداعى أمام: أولاً أن ثقافة العصر بالمفهوم الواسع لكلمة ثقافة لا تقوم كلها على أمور علمية، بل إن بعض نواحي هذه الثقافة قائمة على أذواق وأهواء لا صلة لهما بالعلم.. وثانياً: أن القليل جدًا من معارف العصر وعلومه باعتراف المتخصصين وذوي الخبرة في هذه العلوم، هو من الحقائق العلمية الثابتة والأمور اليقينية التي لا تقبل النقض، ومعظم العلوم العصرية حتى التجريبية منها، دعك عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، يقوم على فروض واحتمالات، وفي كل يوم ينقض العلم نظرية ويبني نظرية أخرى، فكيف يخضع الدين لتفسيرات وتأويلات وفهم مختلف اعتمادًا على فروض واحتمالات متغيرة متبدلة؟ وثالثاً: أن معارف العصر بكل فروعها وأقسامها، حتى العلوم التجريبية منها، لا تقوم على حقائق مجردة، معتمدة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، بل قد صاحبتها تصورات وتفسيرات ونظريات تسيطر عليها الروح المادية، فصاغت كل العلوم داخل هذا الإطار وصبتها في قالبه، وكل ما خرج عن الإطار المادي اعتبر خارج دائرة العلم، ووضع في باب الخرافات والأساطير، والأوهام والتخيلات.

ولذلك فإن ذلك التصور المادي قد ترك آثاره في كل فروع معارف العصر، وحين ينظر العصرانيون الجدد للدين من خلال معارف العصر بكل ما فيها، ترتكب بحق الدين وبحق العلم أخطاء شنيعة، وتأتي محاولاتهم للتوفيق بين الدين وبين معارف العصر محاولات شوهاء.

فالتصورات الأساسية عند العصرانيين الجدد أن الفكر مرتبط بالظروف التي ينشأ فيها، وبالعصر الذي يظهر فيه، وتؤثر فيه عوامل الزمان والمكان، وانطلاقًا من هذا التصور يوصف الفكر الديني القديم بالظرفية، وينادي بتطويره وجعله حديثًا معاصرًا، والحجة الأساسية التي تقدم لرفض ذلك الفكر، أنه تقليدي نشأ في عصور ماضية، وأنه ليس مسايرًا لاتجاهات العصر وتياراته.

وصلة الفكر بالظروف مسألة ظهرت فيها نظريات عديدة، ووصل التطرف أقصاه عند بعض الفلاسفة فجعلوا الفكر وليد الظروف الاقتصادية وأدوات الإنتاج. والنقد الأساسي الذي يوجه إلى أمثال هذه النظريات أنها تنظر إلى جانب واحد، وذلك ما يوقعها في الأخطاء، إذ إنها تغفل عن سؤال مهم وهو: ما الذي يكون الظروف التي يقال إن الفكر مرتبط بها؟

فالإنسان بما أوتي من مواهب عقلية وقوى فكرية، يؤثر في الظروف وتكوينها، وإذا كان صحيحاً أن طبقات كثيرة من المجتمع تخضع للظروف السائدة وتنقاد لها، إلا أن قادة الفكر ورواده، ممن يجتهدون ويجددون، وتستحدث على أيديهم الآراء الجديدة، والاكتشافات والاختراعات، لا يخضعون للظروف ولا يتأثرون بها، لقد عجزت العلوم الاجتماعية عن تفسير هذه الظاهرة.

وإذا كان القول إن الفكر يرتبط بالظروف وتكتنفه مصاعب ويواجه بالنقد، فإن رفض الفكر لمجرد أنه نشأ في عصور ماضية، ولمجرد كونه قديماً، قول لا صلة له بالعلم وبعيد عن الموضوعية، فالفكر لا يمكن أن يُقبل أو يُرفض باعتبار الزمان أو المكان اللذين ظهر فيهما، ولكن يرفض إذا قُدمت الأدلة على خطئه، فإذا ثبت أن الفكرة صحيحة كانت صحيحة ولو ظهرت فيما قبل التاريخ، وإذا ثبت أن الفكرة خاطئة فهي خاطئة ولو قيلت في هذا العصر.