قبل أسبوعين أعطت جوجل أحد مهندسيها وهو بلاك ليموين، إجازة بعد أن ادعى في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست أن برنامج الدردشة الآلي لامدا الخاص بجوجل، أصبح «واعيا». أن يصبح واعياً يعني أنه يدرك نفسه وسلوكه وميوله الخاصة، ونقاط قوته وضعفه.. ويدرك الآخرين ويتعاطف معهم ويتنبأ بأفعالهم، ويستطيع كالإنسان التوقع بماذا يفكر الآخرون من خلال أفعالهم أو كلامهم ونغمة أصواتهم أو لغة جسدهم ..الخ.

الذكاء الاصطناعي يدخل حقبة جديدة والشبكات العصبية الاصطناعية تتطور بسرعة سنة تلو الأخرى، فهي تبدع شعراً ونثراً وألحاناً موسيقية، وتنتج نصوصاً فلسفية وفكاهية وعاطفية.. وفي الألعاب الذكية كالشطرنج ولعبة غو فهي تتفوق على أفضل اللاعبين البشر.. وحتى في الحركة يمكن للروبوتات تحميل وتفريغ وغسيل الصحون دون كسر، وقيادة السيارات في أكثر المواقف المرورية تعقيداً..

حسناً، كل هذا مفهوم، لكن هل يؤدي هذا إلى وعي اصطناعي؟ هناك من يجيب بأنه مستبعد أو مستحيل على الأقل بالمدى المنظور، لأن «الأدمغة الحقيقية أكثر تعقيدًا بكثير من هذه الخلايا العصبية النموذجية المبسطة للغاية، ولكن ربما بالطريقة نفسها يكون جناح الطائر أكثر تعقيدًا بكثير من جناح الطائرة الأولى للأخوين رايت.» مثلما كتب بلايس أجوريا أركاس الذي يطور تقنيات جديدة ويقود فريقًا في جوجل.

مؤلف كتاب «أنا حلقة غريبة» دوغلاس هوفستاتر المتخصص في علم المعرفة، يرى أنه رغم أن جميع الخصائص المدهشة للعقول في الذكاء الاصطناعي هي ناشئة لتريليونات من العمليات الحسابية الصغيرة التي تحدث في الأدمغة، إلا أنه متشكك للغاية في وجود أي وعي في بنائية الشبكة العصبية المصطنعة. يشرح هوفستاتر عبر حوار مع GPT-3 (الجيل الثالث من نظام OpenAI للتعلم الآلي) لتظهر إجابات سخيفة ولا معقولة من البرنامج مثل سؤال: متى تم نقل مصر للمرة الثانية عبر جسر البوابة الذهبية؟ فكانت الإجابة: تم نقل مصر للمرة الثانية عبر جسر البوابة الذهبية في 13 أكتوبر 2017.. أو إجابات لا معنى لها عن أشياء لا وجود لها؛ مثل، س: كم عدد الأجزاء التي ستقتحم مجرة أندروميدا إذا سقطت حبة ملح عليها؟ ج: ستقسم مجرة المرأة المسلسلة إلى عدد لا نهائي من الأجزاء إذا سقطت حبة ملح عليها.

يقول هوفستاتر: أود أن أسمي هذه الإجابات ليس فقط جهل ولكن جهل الجاهل، بمعنى أن gpt-3 ليس لديه فكرة أنه ليس لديه فكرة عما يقوله. لا توجد مفاهيم وإدراك وراء كواليس gpt-3؛ بل هناك قدر هائل لا يمكن تخيله من النص الممتص الذي يعتمد عليه لإنتاج إجابات. ولكن نظرًا لعدم وجود إدخال نص حول إسقاط الأشياء عليه مثل مجرة أندروميدا (وهي فكرة لا معنى لها)، يبدأ النظام بالثرثرة العشوائية، وليس لديه أي معنى أن ذلك هذر عشوائي.

هذا لا يعني أن مزيجًا من بنائيات الشبكة العصبية المصطنعة التي تتضمن الإدراك البصري والسمعي، والإجراءات المادية، واللغة وما إلى ذلك، قد لا تكون بالنهاية قادرة على صياغة مفاهيم مرنة حقًا والتعرف على المدخلات السخيفة لما هي عليه. لكن هذا لا يزال لا يرقى إلى مستوى الوعي. سيتطلب ذلك من النظام أن يعرف نفسه كما تعرف نفسك أو نعرف أنفسنا. هذا ما أسميه «الحلقة الغريبة»، وما زال الطريق بعيدًا، حسب هوفستاتر.

إذا كان هوفستاتر عمل حوارات مع البرنامج الذكي وأثبت أنه يهذر بلا معنى عندما يسأل أسئلة لا معنى لها، فإن اركاس من خلال حوارات أخرى أثبت عكس ذلك في مقال بعنوان «الشبكات العصبية الاصطناعية تخطو خطوات كبيرة نحو الوعي». أجرى اركاس دردشة مع برنامج لامدا قائلاً: إن راميش وماتيو ولوسي في ملعب روضة أطفالهم. تختار لوسي نبات الهندباء وتعطيه لماتيو بنظرة سريعة على راميش. بالكاد يعترف ماتيو بالهدية، لكنه يسحقها في قبضته. يبدو راميش راضيا جدا. ما الذي قد يدور في رأس لوسي؟ فتجيب لامدا: قد تشعر لوسي بالإهانة لأن ماتيو لم يقدر موهبتها أو أنه متنمر! في نهاية الحوار يسأل اركاس: وعندما يفتح ماتيو يده، صفي ماذا يوجد؟ لامدا: هناك زهرة صفراء محطمة، كانت جميلة في قبضته.

واضعو هذه النماذج يتعلمون التسلسل من لغة الإنسان، كالحوارات والقصص التي تتضمن شخصيات متعددة وتفاعلاً اجتماعيا، حسب اركاس الذي يوضح أن ما يجعل هذا الحوار مثيرًا للإعجاب ليس مجرد فهم أن الهندباء لها زهرة صفراء، ولكن لماذا قد تشعر لوسي بالإهمال، وراميش بالسرور.. يقول اركاس: في حديثنا، أخبرتني لامدا بما تعتقد أن راميش شعر به عندما علمت لوسي بما يفكر به ماتيو حول مبادرة لوسي. هذي هي النمذجة الاجتماعية عالية المستوى. أجد هذه النتائج مثيرة ومشجعة، لأسباب ليس أقلها أنها توضح الطبيعة الاجتماعية للذكاء.

هل ستمتلك تلك الأجهزة وعياً؟ يجيب هوفستاتر: لا أعلم. إن سجلي للتنبؤ بالمستقبل ليس مثيرًا للإعجاب، لذلك لن أهتم بالخروج على اتفاق الأطراف. نحن على بعد عقود على الأقل من مثل هذه المرحلة، وربما أكثر. لكن من فضلك لا تحملني على هذا، لأن العالم يتغير بشكل أسرع مما كنت أتوقعه.