عندما وُلد اللبناني الأصل هادي مطر، في الولايات المتّحدة الاميركية، كانت رواية " الآيات الشيطانية"، قد بلغت عامها العاشر، وكذلك فتوى القتل التي أصدرها روح الله الخميني، ضدّ كاتبها سلمان رشدي، وجميع من نشرها وترجمها وساندها.
وكما هي حالة الغالبية القصوى ممّن ساندوا قتل الكاتب الهندي-البريطاني، يُرجّح أن يكون مطر، المؤيّد بحماسة ظاهرة ل"الحرس الثوري الايراني" وأذرعه التي يتقدّمها "حزب الله"، من هؤلاء الذين لم يقرأوا الرواية، مثله مثل المصري محمد ناجي، المؤيّد النشط ل"الجماعة الاسلامية"، الذي كان قد طعن الكاتب نجيب محفوظ، بعد تكفيره على خلفية روايته "أولاد حارتنا"، في الرابع عشر من تشرين الأوّل (اكتوبر) ١٩٩٥.
مات نجيب محفوظ، بعد سنوات على محاولة اغتياله، لكنّ رائعته الروائية لا تزال حيّة تنبض، في المكتبات الورقية والالكترونية وفي العقول والقلوب، وقد يموت سلمان رشدي، في ضوء الجراح العميقة التي أصيب بها، ولكنّ روايته التي اختلف النقّاد في تقييم جودتها، سوف تبقى حاضرة بقوة، وسوف تكون لها قوة معنوية مضافة، لأنّ الكلمة متى تعمّدت بالدماء والتضحية والجرأة والصلابة…تخلد.
وليس تفصيلًا مملًّا معرفة أنّ نسبة مبيعات "آيات شيطانية" على المنصّات الالكترونية، قد اشتعلت، على امتداد الكرة الارضية،بمجرّد بدء تواتر المعلومات عن محاولة اغتيال سلمان رشدي، فيما عمّمت كبريات وسائل الاعلام، في عصر التواصل الالكتروني،مختصرات كافية عن مضمون الرواية والأسباب العامة لاستياء الاسلام السياسي منها والاسباب الخاصة لغضب الخميني عليها، بعدما تخيّل أنّ الكاتب يجسّده هو في تلك الشخصية البشعة التي أتت الى بلادها لتأكل المواطنين وتلتهمهم.
وتجسّدت المفارقة الكبرى في أنّ الدولة البريطانية التي استهدفها الكاتب، بانتقادات لاذعة في غالبية الحبكة الروائية الخاصة ب"آيات شيطانية"، تولّت هي نفسها حمايته من المفاعيل التنفيذية لفتوى القتل التي اصدرها مرشد ثورة تتدثّر بمبادئ الدين وقواعد التسامح والرحمة، لم يحتمل ثلاثة مقاطع من الرواية الممتدة على اكثر من خمسمائة صفحة.
إنّ ما تعرّض له رشدي وسبق أن تعرّض له غيره، لن يصلح، كما يزعم مؤيدو النهج الترهيبي، في التعامل مع الكلمات والرسوم وسائر الفنون، ليكون "عبرة لمن يعتبر"، فهو سبق أن سقط سقوطًا مدويًا، يوم كانت "الاسطورة" تُحيي الكاتب والكتاب اللذين يحرقان معًا، فما بالك، وقد أضحى الكاتب المهدّد سيرة حياة مزيّنة بالتقدير فيما أضحى الكتاب كيانًا إلكترونيًا يستحيل المسّ بحرف واحد من حروفه؟
في الواقع، إنّ "طاعة" الشاب هادي مطر لفتوى عقائدية-سياسية- شخصية، وهو المنتمي عاطفيًا، الى أحزاب لا تتردّد في الزعم بأنّها تعمل بتكليف من الله، نفَعَ الكاتب أكثر ممّا أضرّ به، وأضرّ بصورة المسلمين بدل أن يدافع عن دينهم!
ما لا يعرفه هؤلاء الناجون من عصور الظلام، أنّ الكاتب لا يحيا بجسده، بل بكتابه، وهو، عندما يفكّر بالموت، لا يهتم الا بالسنوات التي يمكن ان تحيا فيها كتاباته بعد رحيله.
وهذا يعني أنّ ما حصل مع رشدي وسبق ان حصل مع محفوظ، وما أصاب كتابًا كثرًا،على مدى التاريخ والماضي البعيد والأمس القريب، لن يردع أحدًا في المستقبل، فمن يمكن أن يخشى على سلامته ومصالحه، يستحيل أن يصبح كاتبًا ناجحًا، لأنّ الابداع ليس وليد الحريّة فحسب، بل هو وليد زواج بين عاشقين كبيرين: الخيال الجموح والتمرّد الراسخ.
هذا ما تأكّد، بشكل لا يقبل الشك، في المسألة المسيحية، حيث أصبح التشكيك بالسردية الدينية، مسألة كلاسيكية، وهذا ما بدأ يفرض نفسه، في المسألة الاسلامية، حيث باتت المكتبات الورقية والالكترونية والصوتية والتلفزيونية والوثائقية، ملأى بالانتاج المناهض للسرديات الشرعية.
ومن المفيد أن لا يؤثّر الترهيب على الانتاج الفكري والادبي والفنّي، وإلّا لكانت الأرض قد تحوّلت الى مسلخ، لأنّه لا يوجد مُنتَج واحد، إلّا ويُلاقي فئة غاضبة ومستاءة منه.
وقد توصّل العاقلون الذين تعلّموا من تجارب التاريخ إلى درس كبير: يبقى الانتاج الادبي والفكري والفنّي، في حدوده الطبيعية، طالما بقي خصومه والمتضررون منه في حدودهم الطبيعية، ولكنّه يصبح قيّمًا للغاية بمجرّد أن يتوهّم الغاضب منه بأنّ اللجوء الى سفك الدماء قادر على أن يشفي نفسيته التي لا تتحمّل شكًا بفكرته وتشكيكًا بسلوكه.
إنّ الله والانبياء والرسل، ليسوا بحاجة الى المتطرّفين ليحموا سمعتهم ويذودوا عن كراماتهم، بل هم، ربّما، يكونون أكثر بهجة وسعادة وفخرًا، إن وجدوا عباقرة بين المؤمنين بهم، لا متطرّفين لا يجيدون سوى سفك الدماء.
التعليقات