يعتقد الأميركي الأبيض من سكان الولايات الجنوبية أن مجرد وجود السود في أميركا ما هو إلا معضلة في صلب الكيان القومي الأميركي، ومصدر قلق دائم لمستقبل أميركا، بهذا التفكير الملتوي ينظر معظم البيض إلى قضية السود في المجتمع الأميركي، بهذا المنظار، غير آبهين بمنافاة ذلك لأبسط المبادئ وحقوق الإنسان والقيم الإنسانية..

كانت الزلة التاريخية الكبرى التي وقعت فيها أميركا هي تمكين النفوذ اليهودي من الهيمنة على الإعلام والسينما الأميركية، واستخدامهما ضد بعض الثقافات وبالذات العرب.

فإذا ما وقفنا على السينما الأميركية نجد أنها تتعامل مع العربي كشخصية نمطية Stereotype ذات مغزى سلبي تعكس صورة سلبية للمشاهد، أهم معوقات هذه الصورة الجهل والعيش خارج إطار هذا العصر العلمي والتعصب الأعمى، والغباء، والطباع المنفرة، والمكر وعدم الفاعلية، هذه الصفات تظهر في أي شخصية عربية تعكسها السينما الأميركية.

صحيح أن السينما الأميركية سخرت من المكسيكيين واللاتينيين والهنود والروس والسود الأميركيين، ولكن الفرق الوحيد أنها بدرجات متفاوتة تعكس الوجه المشرق لجميع هؤلاء من بين الفينة والأخرى، وظل العربي هو الوحيد الذي ظل دائماً على الشاشة بوجه واحد وجه سلبي، في حين أن اليهودي ينال تشخيصاً سينمائياً إيجابياً دائماً، فهو الإنسان الذي يكافح ويصل ويتحدى جميع الظروف المعاكسة.

فالعربي هو المستضعف في نظر السينما وأجهزة الإعلام الأميركية في الوقت الذي أحرز فيه السود الأميركيون تقدماً كبيراً على صعيد السينما والإعلام، ولكن علينا أن نلاحظ أن السود انتزعوا هذا التقدم انتزاعاً بفضل حركة شاملة انتظمت مجموع المجتمع الأسود وزلزلت أركان المجتمع الأميركي.

ولكن لم يكن السود على هذه الحال في الثلاثة القرون الماضية.

في ثلاثينات القرن الماضي كتب أحد الكتاب الأميركيين بأن "تشويه حالة السود في أميركا لدى العالم الخارجي كان مكيدة دبرها الشيوعيون للحط من سمعة أميركا في أنظار العالم" وهذا ليس الواقع.

أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأميركية حرصت على زيارة الولايات الجنوبية والتي تعرف بمنطقة الجنوب الأقصى

[deep south] والتي تشمل كارولينا الجنوبية وجورجيا وألاباما وتينيسي ومسيسيبي ولويزيانا وفلوريدا.

كان الباعث لزيارتي لتلك الولايات الجنوبية قراءتي للنص الشعري الذي كتبته الشاعرة الأميركية مارغريت ووكر، وكان أحد نصوص مجموعتها الشعرية [for my people] من أجل قومي، وكانت مارغريت ووكر قد حصلت على الدكتوراة من جامعة آيوا عن رسالتها التي تروي فيها قصة الرق من خلال حياة جدتها لأمها التي ولدت في ظل الاستعباد.

ذلك أنه إلى وقت قريب "يعتقد الأميركي الأبيض من سكان الولايات الجنوبية أن مجرد وجود السود في أميركا ما هو إلا معضلة في صلب الكيان القومي الأميركي، ومصدر قلق دائم لمستقبل أميركا، بهذا التفكير الملتوي ينظر معظم البيض إلى قضية السود في المجتمع الأميركي، بهذا المنظار، غير آبهين بمنافاة ذلك لأبسط المبادئ وحقوق الإنسان والقيم الإنسانية".

في يناير 1986 نشرت مجلة "المبتعث" السعودية في واشنطن دراسة عن وضع السود تاريخياً في أميركا، وكان من بين ما تناولته الدراسة "أن العنف كان طابع العلاقة ما بين السود والمجتمع الأميركي على مدى ثلاثة قرون، والفرق أنه كان عنفاً موجهاً في الغالب من جانب المتعصبين البيض ضد السود، يتمثل هذا العنف في حوادث الاعتداء على منازل السود وفي اللجوء إلى العنف لفرض سياسة التمييز العنصري عندما يأخذ العامة القانون في أيديهم لمنع السود من استخدام مرفق عام، سواء أكان منتجعاً للاستجمام أو مصنعاً يؤمه العمال السود طلباً للعمل أو غير ذلك.

والفرق الأهم هو أن ذلك العنف القديم كان لا يصيب المجتمع الأبيض بأي ضرب، فميدان المعركة والضحايا كان بين السود ومن السود.

أما العنف المسمى حضرياً والذي شهدته الستينات، فقد شهد ولأول مرة السود يوسعون ميدان المعركة حتى شعر به المجتمع الأميركي.

وهنا بدأ الباحثون يعيدون النظر في حركة العنف التي شهدتها مراكز التجمع الحضرية الكبيرة".

يؤرخ معظم الباحثين في حركة الحقوق المدنية، بداية هذه الحركة بالقضية المعروفة بـ"لندا براون" ضد لجنة التعليم في توبيكا عام 1954.

إلا أن قضية "ليندا براون" لم تحسم التفرقة في المدارس الحكومية على مستوى المجتمع والحياة العامة، ولذلك فإن تاريخ حركة الحقوق المدنية على أنها تبدأ بهذه المعركة القانونية ليس صحيحاً، ولكن حادثاً آخر في ألاباما كان هو المحرك الحقيقي لحركة الخمسينات والستينات النشطة.

ففي 1 ديسمبر 1955م قالت سيدة سوداء مسنة في مدينة مونتغمري في ولاية ألاباما اسمها روزا باركس "لا"، وكان هذا هو الإعلان الحقيقي لمولد حركة الحقوق المدنية السوداء في أميركا.

فقد كان عرف التمييز العنصري وقوانين "جيم كراو" تقضي بأن يركب السود في مؤخرات الحافلات العامة، وألا يجلس مواطن أسود إذا كان هناك أبيض لا يجد مقعدًا، جلست السيدة روزا باركس في مقدمة الحافلة وجاء مواطن أبيض، فطلب سائق الحافلة من هذه السيدة أن تتخلى عن مقعدها للرجل الأبيض، فقالت روزا باركس "لا"، ثم أردفت في لهجة تجمع بين إنجليزية السود ولكنة الجنوب "لست تاركةً مقعدي لأحد".

فعل روزا باركس المتحدي أدى إلى إنشاء منظمة تحسين مونتغمري بقيادة شاب أسود في السادسة والعشرين من عمره نال الدكتوراة من جامعة بوسطن اسمه "مارتن لوثر كينغ"، ونتج عنه أيضاً قرار من غالبية مواطنين مونتغمري من السود بمقاطعة الحافلات العامة، وكانت المقاطعة من أنجح الأعمال التعبوية حتى ذلك الوقت، حيث استمرت عاماً كاملاً، وأدى نجاحها إلى إنشاء القيادة الجنوبية، وإلى إعلان المسيرة إلى واشنطن، وإلى تحرير كينغ لرسالته الشهيرة من السجن [Letter from Birmingham Jail].

وهكذا نرى أن السيد العجوز التي انفجرت فيها هوانات السنين في لحظة باقية استطاعت أن تعبئ الأمة السوداء في أميركا في وقت عجزت فيه مداولات اللجان وانتصارات المحاكم أن تهز شعرة في رأس العنصرية.

الحقيقة أن فكر الاستعباد الذي ساد عندما أتى بالسود من بلاد بعيدة لأغراض التسخير الاقتصادي المتذرع بفكر الاستعلاء الديني العرقي، أراد أن يروض الشعب الأسود على شيئين فيما يتعلق بحياته الثقافية:

الأول: هو أن ينسى هذا الشعب الأسود ثقافته الخاصة، لذلك فقد صممت أساليب القهر العنصري على محو مظاهر هذه الثقافة.

والثاني: هو أن يعرف السود أن ثقافة السادة البيض في الوقت نفسه ليست متاحة لهم.

وفي ذلك سلك الجنوبيون الأميركيون مختلف الطرق لبث الذعر والخوف في نفوس السود، ومن الطرق المألوفة هي: المسيرات الليلية الصامتة التي تنظمها جمعية "ك.ك.ك"، حيث يرتدي الأعضاء بزاتهم البيضاء وقلنسواتهم المخروطية ويحملون المشاعل أو لافتات رسمت عليها هياكل عظمية.

ومن المناظر المعروفة الاجتماعات الكبيرة التي يعقدها أعضاء الجمعية، والتي يحرقون فيها الصلبان الخشبية، وتعليق الحبال على أشجار الشوارع، قصد تهديد السود.

وإن كان أخف أنواع التحذيرات الرسائل التهديدية التي ترسل بالبريد إلى السود واللافتات التي تعلق على أبواب المنازل في سواد الليل.

عناصر متجبرة في حياة السود في أميركا، كانت -وبعضها مايزال-: القهر والاغتراب والوهم واليأس والحلم والبؤس والفراغ والعجز والخوف والرفض والموت.