أخيرا حطّ الفيلم اللبناني "كوستابرافا" الرِّحال في صالات بيروت السينمائية، بعد جولة في مهرجانات العالم السينمائية وعروض في عواصم أوروبية، الفيلم الذي كتبته وأخرجته مونية عقل، وقام بالبطولة فيه كل من نادين لبكي والممثل الفلسطيني صالح بكري، عمل يناصر البيئة، ويمكن اعتباره جزءا من الحملة التوعوية من أجل كوكب جميل ونظيف، ورفع الوعي بالقضايا البيئية، وهو يندرج ضمن الإطار البيئي العالمي بالتأكيد، لكن بالنسبة للجمهور اللبناني فالفيلم يصوّر بالضبط مأساته التي يعيشها يوميا منذ سنوات، مع مكبّات النفايات التي أكلت المدن والجبال والشواطئ، رغم الهبات الخارجية التي تقدر بملايين الدولارات لعلاج هذه المشكلة، والتي تذهب لجيوب المسؤولين الفاسدين بكميات صاعقة.

يبدأ الفيلم بمشهد جميل يختصر لنا وضع العائلة السعيدة التي تصالحت مع نفسها كجزء لا يتجزّأ من الطبيعة، تتخذ مسكنا في قلب الغابة وتعتزل بيروت، بما فيها المدارس النظامية للبنتين.

في قلب تلك الغابة تعيش الجدة التي توقّع لها الأطباء الموت السريع قبل سنتين حين كانت في المدينة الملوثة، والأم التي تخلّت عن مشروعها الفني والأب الكاره لكل أنواع التلوث السمعي البصري البيئي والذي لم نعرف مهنته بالضبط، والبنت المراهقة التي لا أصدقاء لها، والصغيرة التي أبهرتنا بتمثيلها والتي تعلّمت كيف تقاوم كل ما يخيفها بالعد للأربعة والأربعين ربما (أو هذا ما فهمته).

لن تهنأ هذه العائلة في عزلتها هذه، إذ تبيع العمّة قطعة الأرض المحاذية لأرض أخيها، وبالصدفة يكون الشاري أحد أولئك المسؤولين الفاسدين، والذي يحصل على هبة مالية فرنسية ويبدأ بفتح مكب للنفايات، وكما في واقعنا المأساوي يبدأ تدشين المشروع بخطبة رنّانة، ووعود وردية، ثم بعد عدة أشهر تظهر النيات الحقيقية وتغطي النفايات الغابة، وتعبر السور لتحتل ساحة البيت والمسبح الصغير وخزان المياه، وهنا ينتهي، تنشب الخلافات بين أفراد العائلة الحالمة، تموت الجدة، بسبب تصاعد الأبخرة السامة من المكب وتفاقم حالتها، تقرر الأم العودة إلى بيروت ومعها ابنتها المراهقة حتى لا تتشوّه حياتها أكثر، تبقى الصغيرة مع والدها لفترة ثم تشعر بالحاجة لوالدتها وأختها فتحزم حقيبة ظهرها وتغادر متسللة من البيت الجبلي الذي أصبح محاطا بكل أنواع السموم، يلحقها والدها حين يكتشف فرارها، ويبدو أن مخرجة الفيلم تفضل أن تترك لنا بصيص أمل وسط تلك المشاهد القاتمة، فتنهي الفيلم بابتسامات يتقاسمها الأب مع ابنته الصغيرة رمز الأجيال القادمة.

ترشح فيلم "كوستابرافا" للحصول على جائزة الأوسكار لهذا العام، ونال الكثير من التقدير من الجمهور ومجمل النقاد، ويبدو أن رهان مونية عقل على موضوع البيئة كان في محله كونه موضوع الساعة، لكنها أيضا نجحت في اختيار الممثلين خاصة صالح بكري، والنجمة نادين لبكي التي حافظت على سحرها الخاص دون أن تصاب بلوثة التجميل التي دمّرت ملامح أغلب الممثلات العربيات.