استيقظ العالم، صباح السبت الماضي، على خبر تدمير جسر القرم الاستراتيجي، الذي تكمن أهميته في ربط شبه الجزيرة، ذات الأهمية الاقتصادية والعسكرية والتاريخية والديمغرافية، بالأراضي الروسية. وقد اعتبر رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، إقدام أوكرانيا على تفجير الجسر، بأنه إعلان حرب. واكتفت الحكومة الروسية، حتى لحظة كتابة هذا المقال بإدانة الحدث واعتباره عملاً إرهابياً. وشكل الرئيس بوتين لجنة تحقيق لمعرفة أبعاد هذا الحدث وتقدير حجم الخسائر.


كانت الأسابيع الأخيرة، قد حملت تداعيات خطِرة في الأزمة الأوكرانية، تمثلت في نكسة القوات الروسية، في منطقة خيرسون، وتقدم القوات الأوكرانية، في مناطق عديدة، في إقليم دونباس، كانت اكتسبتها القوات الروسية، في الشهور الأولى للعملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها إدارة الرئيس بوتين.

أدت هذه الانتكاسة، إلى اتخاذ الحكومة الروسية لخطوتين رئيسيتين، من شأنهما تغيير مسار الحرب، أولهما استدعاء احتياط عسكري بتعداد ثلاثمئة ألف مقاتل؛ للانخراط في ما تعتبره الحكومة الروسية دفاعاً عن الأمن القومي. والثانية، صدور أمر رئاسي روسي، بضم لوغانسك ودونيتسك وزباروجيا وخيرسون للأراضي الروسية. والأهم في هذا السياق، هو تصريح الرئيس بوتين بأنه لن يتردد عن استخدام كل ما من شأنه أن يؤمّن الدفاع عن بلاده، بما فيها الأربع مقاطعات التي ضمّت حديثاً، والتلويح باحتمال استخدام أسلحة نووية تكتيكية، متى ما تعرضت هذه الأراضي لأي تهديد حقيقي من قبل الجيش الأوكراني.

ولا شك أن عملية التخريب المتعمدة، لخطوط إمداد الغاز الروسي للقارة الأوروبية، ساهمت في تسعير الأوضاع المتفجرة، على الجبهة الأوكرانية. وتأتي عملية التخريب في جسر القرم، لتصبّ الزيت على النار، ولتدفع بصانع القرار الروسي، لاتخاذ قرارات صعبة من شأنها تصعيد الأوضاع المستعرة أصلاً.

لقد جرح الدبّ الروسي، أثناء «العملية العسكرية»، في مكامن قوته العسكرية، عدة مرات. مرة حين ضرب الطراد الروسي «موسكفا» بالبحر الأسود، من قبل الأوكرانيين. ومرة أخرى، حين أجبرت القوات الروسية على التراجع عن أراض شاسعة اكتسبتها بقوة السلاح وبالتضحيات بالمال والرجال. ومرة ثالثة، حين جرى تخريب إمداد الغاز، المتجه إلى أوروبا، في مواقع عدة ببحر البلطيق.

والآن تأتي الضربة الأعنف عسكرياً، باستهداف جسر القرم. فهل ستكون ردة الفعل الروسية متناسبة مع حجم الخسائر التي واجهتها في هذه الحرب، وهل سيصل الأمر حد تنفيذ الوعد الروسي باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، وذلك ما بات موضع اعتقاد عدد من المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، الذين طالبوا بأخذ تصريحات الرئيس بوتين في هذا السياق على محمل الجد، بعد أن جرحت هيبة بلاده ومؤسستها العسكرية في الأيام الأخيرة.

السلاح النووي، لم يستخدم قط، من قبل أي دولة منذ تمكن الاتحاد السوفييتي من الالتحاق بالنادي النووي، بعد أشهر قليلة من قيام أمريكا بقصف هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية. لقد تحّول هذا النوع من الأسلحة إلى سلاح ردع، أسهم وجوده في تجنيب البشرية، حرباً عالمية ثالثة، قرابة ثمانية عقود. لقد بات من المؤكد أن استخدام هذا السلاح يعني فناء محتماً للبشرية جمعاء.

ذلك لا يعني أن العالم، طوال العقود المنصرمة، التي أعقبت استخدام القنبلتين النوويتين فوق اليابان، لم يقترب من حافة الحرب النووية، ولكن وعي الغرماء في الصراعات العسكرية لمخاطر استخدام السلاح النووي على العالم أجمع، هو السبب الرئيسي الذي حال دون استخدامه.

لقد حمل الإنذار الروسي الشهير، عام 1956، لدول العدوان الثلاثي على مصر، احتمالات استخدام القنابل النووية بحق الدول المعتدية. ولكن تراجع هذه الدول وتوقف العدوان قد تكفل بتحويل هذا النوع من السلاح إلى سلاح ردع إيجابي يحول دون اشتعال الحروب. ومرة أخرى، جرى التلويح بحرب نووية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، وحبس العالم أنفاسه، وتدخل العقلاء من زعماء وقيادات العالم، وانتهت الأزمة بتسويات كسب فيها مختلف الأطراف. وتكرر التلويح بالحرب النووية مرة ثالثة، أثناء معركة العبور عام 1973، حين هدّد الاتحاد السوفييتي باستخدامه، ما لم توقف إسرائيل تقدمها غرب السويس.

الخشية من استخدام روسيا لأسلحة تكتيكية نووية لا تعود فقط إلى مخاطر هذا الاستخدام، ولكن، وذلك وهو الأهم، من أن يصير هذا السلوك نمطاً في الحروب القادمة التي تجري بمختلف أصقاع الكرة الأرضية، وذلك ما يمثل سابقة خطِرة، ينبغي التحسب لها، والعمل على تجنيب البشرية نتائجها الكارثية.