استأنف البرلمان العراقي مجدداً التداول حول قانون القبائل والعشائر العراقية بعد ست سنوات من التعطيل، انسجاماً مع مقتضيات دستور 2005 الذي ينص على أن الدولةَ ترعى القبائل وتنهض بها وفق التشريعات والأعراف الدينية والقانونية.
ومع أن الحكومات المتتالية في العراق منذ عام 1958 ألغت المرجعيةَ القبلية وحاربت النظام القبلي، إلا أن سقوط نظام «البعث» عام 2003 أدى إلى عودة قوية للتركيبة العشائرية بحيث أصبحت فاعلةً وحاسمةً في الموازين الانتخابية والسياسية.

في بلدان أخرى عديدة، مثل اليمن والأردن وليبيا وموريتانيا، نلمس المعادلة نفسها، أي الدور السياسي للقبيلة في سياق عملية التحول الديمقراطي ومسارات التعددية الحزبية والمنافسات الانتخابية.
في مقابل الأطروحة الحداثية التقليدية التي تفصل جذرياً بين النظام القبلي ما قبل الدولة والنظام المدني للدولة الحديثة، حيث برزت بعض الأدبيات الفكرية والاجتماعية في السنوات الأخيرة ترى أن المكون القبلي هو مرتكز التعددية السياسية في المجتمعات العربية، ومن ثم فالديمقراطية الانتخابية لا بد أن تراعي هذه التركيبة وتعبّر عنها موضوعياً.

في بعض البلدان العربية التبست التركيبة القبلية بالتنظيم السياسي، مثل حالة «حزب الإصلاح» اليمني الذي تأسس عام 1990 ليكون الذراع السياسية لقبائل حاشد، مع كونه تبنَّى أيديولوجيَا «إخوانية» قوضت إلى حد بعيد هويته العشائرية الأصلية.
وفي العراق، تعتمد ميليشيات «الحشد الشعبي» و«عصائب أهل الحق» في الجنوب والوسط على الشبكات القبلية التي لا يزال لها تأثير قوي في الشارع وفي الموازين الانتخابية.
وفي ليبيا، لا يخفى أن الصراع الداخلي له طبيعتُه القبليةُ، حيث برز الاصطفاف على أساس عشائري بين قبائل الغرب من ورفلة وأولاد سليمان والقذاذفة، وهي قبائل لا تزال وفيةً لنظام القذافي، وقبائل الزنتان ومصراتة التي كانت العمود الفقري لانتفاضة 2011، في حين تدعم قبائل ترهونة وبرقة «الجيش الوطني الليبي» بقيادة المشير خليفة حفتر.

بعد سقوط نظام «البعث» في العراق، وبعد أحداث ما يعرف بـ«الربيع العربي»، ظهرت مقاربتان أساسيتان في الإعلام ومراكز الدراسات الغربية، ذهبت إحداهما إلى طرح خيار الديمقراطية القبلية بديلاً عن الأنظمة العسكرية الأحادية، وذهبت الثانية إلى خيار «الدولة المدينة» بديلاً عن الكيان الوطني الموحد. وفق المقاربة الأولى، تتمتع المجتمعات القبلية بقدرة خاصة على حماية الفرد من سيطرة وتغول الدولة، فهي بهذا المعنى مجتمعاتٌ تعددية تقوم فيها مراكز سلطة مضادة على غرار المجتمعات الليبرالية التي يضطلع فيها المجتمع المدني بدور المجتمع الأهلي في السياقات ما قبل الصناعية الحديثة. ولهذه الأطروحة خلفيات في المدرسة الانتروبولوجية القديمة منذ كتاب عالم الاثنوغرافيا الفرنسي بيار كلاستر «المجتمع ضد الدولة»، وكتابات المدرسة الانقسامية (ايفانس بريتشارد وأرنست غلنر.. إلخ).
ما تدافع عنه هذه الأطروحة هو نظام تشكُّل المجتمعات القبلية على أساس التضامن الأفقي الذي يمنع تشكُّل سلطة مركزية متحكمة وضاغطة، بما يحمي هذه المجتمعات من الاستبداد السياسي والهيمنة المطلقة.

أما الأطروحة الثانية، فتقوم على مصادرة غياب دولة إقليمية مندمجة في العالم العربي، بما يفرض التركيز على مراكز حضرية كبرى تكون هي قاعدة البناء السياسي والتنموي، ولو اقتضى الحالُ التضحيةَ بالمساحات الهامشية أو غير المفيدة في المجال الجغرافي الممتد. ومع أن هذه الأطروحة لم تجد أيَّ صدى إيجابي في العالم العربي، إلا أن العديد من الدول التي تفككت أوصالُها نتيجة للحرب الأهلية والصراع السياسي الداخلي أصبحت سيادتُها الفعليةُ محصورةً في مراكز مدنية كبرى، بينما تركت مساحات واسعة من المجال الريفي والبدوي للمجموعات القبلية والميليشيات الإرهابية الراديكالية.
ما نريد أن نُبيّنه هو أن خيار «الديمقراطية القبلية» ليس خياراً سليماً أو مجدياً، باعتبار أن التركيبة القبلية الحالية ليست بمعزل عن الصراع السياسي حول الدولة، وهي في غالبها حصيلة «هويات متخيلة»، بلغة «بنديكت اندرسون»، تترجم رهانات حالية وإن استخدمت المعجم الدلالي والمعياري للقبيلة الذي لا يزال مهماً في المتخيل الجماعي.

قد يرى البعض أن الديمقراطية التعددية ربما تتعارض مع فكرة الهوية الجماعية المغلقة التي هي أساس التركيبة القبلية. ونموذج الدولة المدينة على خلفية تفكك الكيانات المندمجة، فليس بديلاً واقعياً ولا مجدياً عن الدولة الوطنية المركزية التي هي الأفق الموضوعي الوحيد للتحديث والتنمية.