عندما يكون التفكير المحلي عالمياً ومستقبلياً، ويكون له صدىً وتأثير في المجتمعين القريب والبعيد، فهذا مؤشّر إلى نجاعة التوجّهات والتدابير واستجابتها للحاجات والتوقعات.
ومع أن بروز ظواهر التطرف واستشراء جماعات الإرهاب، في العقدين الماضيين، شكّلا ضرورةً دافعة إلى الحوار بسبب نسبتهما إلى اختلاف الحضارات وتصادمها، أو إلى الفوارق الدينية والثقافية، إلا أن الحاجة إلى الحوار والتقارب لمزيد من التعارف وإزالة الشكوك ما تزال قائمة وملحّة. وقد انبثقت من ذلك مبادرات حوارية بين الأديان، ما لبثت أن اتخذت شكل مؤسسات ومراكز دائمة تواكب ما يستجد وتخضعه للمتابعة والشرح والنقاش.
وفي إطار هذا الجهد كان المؤتمر العالمي في أبوظبي الذي انبثقت منه «وثيقة الأخوّة الإنسانية» التاريخية موقّعةً من جانب البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب. لم تأخذ تلك الوثيقة بالغة الأهمية حقّها بعد من النفاذ والتأثير، ولعل حلول بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر أخيراً في «ملتقى البحرين للحوار بين الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني» دليلٌ على تصميمهما، وكذلك تصميم قادة المنطقة وحكمائها، على تفعيلها بمبادرات عملية، خصوصاً أن الواقع العالمي يعجّ بالمخاطر التي تضغط على المجتمعات كافةً.
وكان من الطبيعي أن تتصدّر الدعوة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا الكلمات الأولى في هذا الملتقى، فالجميع مدركون أن استمرارها يعني تصاعدها الذي يعني بدوره احتمال سقوط الضوابط وانفلات الكوارث. لكن تفاقم الصعوبات الدولية، تارةً بفعل عنف الجماعات اليائسة وإرهابها وطوراً بفعل تطرّف السياسات الكبرى وفشلها، يجب ألا يتحوّل إلى قدر لا مجال لمواجهته.
ففي حين أن السياسات تنقاد في أحيان كثيرة إلى صراعات مؤذية للحياة البشرية، لا يمكن للأديان بأي حال أن تتخلّى عن القيم الإنسانية مهما تعرّضت لانتهاكات. ولا شك في أن القيمة التي تتميّز براهنية خاصة حالياً هي نبذ الحروب، لأن العنف الأعمى يعبث باستقرار العالَم ويهدّد كل القيم الإنسانية الأخرى التي تجمع ولا تباعد.
وقد كانت رسائل بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر واضحة ومباشرة بأن عالَم اليوم في حاجة ملحّة إلى مَن يعيد تظهير تلك القيم ولا ييأس قبل إعادة وضعها في صميم التخطيط السياسي والاقتصادي والثقافي. فلا شيء يثبت أن المصالح تتحقق فقط بالنزاعات والصراعات وقطع جسور التعاون والتسامح والتعايش.
ففي وصفه للواقع لفت البابا فرنسيس إلى أن غالبية سكان العالَم يجدون أنفسهم «موحّدين» في المعاناة من أزمات الغذاء والبيئة والوباء ومن «العبث المتزايد بكوكبنا»، في حين أن «عدداً قليلاً من أصحاب السلطان» يحيون «اللغات القديمة (الحرب) لإعادة رسم مناطق النفوذ»، مستخلصاً أن الإنسان مُطالبٌ بأن يقول بقوة «لا للحرب» وأن يترجم ذلك بصوة متسقة في العمل».
وفي تناغمها مع الرسالة البابوية لم تكتفِ الرسالة الأزهرية بالتذكير بحاجة الشرق والغرب إلى بعضهما بعضاً، أو بالتنبيه إلى الضرورة الدائمة لمعالجة أسباب العنف الكامنة في «غياب ضوابط العدالة الاجتماعية» واختلالها، بل طرحت مبادرةً عمليةً للحوار مع المسلمين الشيعة بهدف «وقف خطابات الكراهية المتبادلة» و«تجاوز الصِراعات التاريخية والمعاصرة بكلِّ إشكالاتها ورواسبها السيئة».
وانطلاقاً من مبادئ «وثيقة الأخوّة الإنسانية» أعاد الشيخ أحمد الطيب تحذيرَ المسلمين عموماً من «الوقوع في شرك العبث باستقرار الأوطان، واستغلال الدين لإثارة النعرات والتدخل في شؤون الدول والنيل من سيادتها أو اغتصاب أراضيها». وفي ذلك إشارة إلى وعي الفاتيكان والأزهر بخطورة التحوّلات الحاصلة داخل الغرب نفسه وكذلك داخل الشرق.