في الخامس من نوفمبر سنة 1953، وبعد شهر عسل قصير بين نظام «الضباط الأحرار» الذي استولى على السلطة في مصر في 23 يوليو 1952 وحركة «حدتو» الشيوعية المصرية، قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اعتقال وسجن جميع أعضاء الحركة، وكان من بينهم الكاتب اليساري المعروف صلاح حافظ الذي سارع بالهرب والاختباء بمنزل الفنانة تحية كاريوكا (1915 ــ 1999) التي كانت وقتذاك متزوجة عرفياً من الضابط السابق اليوزباشي مصطفى كمال صدقي، قبل أن يستشعر صلاح حافظ بالخطر القادم ويذهب للاختباء عند صديقه الروائي يوسف إدريس.

وبحسب تقارير الصحافة المصرية الصادرة في تلك الفترة، داهمت الشرطة منزل كاريوكا وتم إلقاء القبض عليها مع زوجها بتهمة التعاطف مع «حدتو» والترويج لمبادئ هدامة، وصادرت من المنزل مجموعة من المنشورات والكتب المعادية للنظام كانت معدة للتوزيع. حدث هذا بالرغم من أن كاريوكا كانت في تلك الفترة في قمة مجدها، وكانت أيضاً من أبرز الفنانين المشاركين في ما عرف بـ «قطار الرحمة» الذي خرج تلبية لطلب الرئيس المصري (وقتذاك) اللواء محمد نجيب، بجمع التبرعات.

كانت المفارقة أنه بينما كانت كاريوكا معتقلة بسجن مصر تنتظر المحاكمة في القضية «1519 أمن دولة»، كانت صورها وإعلانات فيلمها الجديد (حميدو) منشورة في الصحف أو معلقة في الشوارع.

وفي أعقاب مرافعات ومداولات وتحقيقات واستجوابات طويلة، وبعد أن أكد زوجها أن لا علاقة لها بالمنشورات المصادرة من منزله، وأن كل المطبوعات المناوئة للنظام تخصه وحده، أصدرت المحكمة العسكرية برئاسة القاضي نعيم هندي وعضوية الصاغ إبراهيم شراب واليوزباشى محمد المنوفي في 10 فبراير 1954 حكماً ببراءة «بدوية محمد كريم» الشهيرة بتحية كاريوكا، وأطلق سراحها بعد أن أمضت نحو مائة يوم في المعتقل. ونشرت صحيفة الأهرام القاهرية الخبر في اليوم التالي في صدر صفحتها الأولى، مذيلة بصورة لكاريوكا وهي وراء القضبان، مرتدية نظارتها وعلى وجهها ابتسامة الواثقة من براءتها.

أما اعتقال المخرج الكبير حلمي رفلة (1909 ــ 1978)، صاحب الأعمال الجميلة الخالدة في تاريخ السينما المصرية منذ أربعينيات القرن العشرين، فقد جاء في التوقيت ذاته لسبب آخر مضحك. وملخص الحكاية أن كاريوكا تعرضت وهي في المعتقل لوعكة صحية، فتم نقلها إلى مستشفى السجن، وحينما علم حلمي رفلة، بالأمر، ذهب إلى المستشفى لزيارة كاريوكا، بحكم علاقة الصداقة والزمالة الطويلة بينهما، يرافقه طبالها الخاص المدعو «سيد كراوية» وزوجة الأخير وخادمة كاريوكا المدعوة «زينب الحلفاوي»، غير أنهم وجدوا على باب غرفتها حراسة مشددة، فلم يتمكنوا من لقائها، الأمر الذي اضطروا معه للاتصال بها صوتياً من خلال نافذة غرفتها المطلة على شارع جانبي، حيث نادى عليها رفلة بصوت مرتفع وسألها إنْ كانت بحاجة لأي شيء، فأجابته «نفسي في طعمية».

سمع مسؤولو السجن هذا الحوار فظنوا أن كلمة «الطعمية» شفرة استخدمتها كاريوكا لإيصال رسالة ما، فأسرعوا لإلقاء القبض على رفلة ومن معه وتم حبسهم احتياطياً بتهمة الاتصال بإحدى السجينات دون تصريح من إدارة السجن. لاحقاً وجه إليهم اتهام رسمي بأنهم «في السابع من نوفمبر 1953 اتصلوا بالراقصة المعتقلة بأمر من السلطات العسكرية في سجن مصر باستعمال طرق احتيالية».

وفي 11 نوفمبر 1954 نشرت صحيفة الأهرام في صفحتها التاسعة خبراً تحت عنوان «الحكم في قضية حلمي رفلة والموسيقي وقرينته» جاء فيه أن المحكمة العسكرية المشكلة بموجب الأحكام العرفية غرمت كل متهم من المتهمين الثلاثة مائة قرش لعدم توفر القصد الجنائي، ومحاولتهم فقط التواصل مع الراقصة تحية كاريوكا في حديث عبر نافذة سجنها.

وبهذا الحكم خرج حلمي رفلة من السجن بعد أن أمضى فيه أكثر من 24 ساعة مع اللصوص والمجرمين، دون أن يشفع له تاريخه الفني الطويل وأعماله السينمائية الكثيرة. وتشاء الأقدار أن يتعرض رفلة بعد ذلك بسنوات، وتحديداً في مطلع الستينيات، بما كان أقسى عليه من دخول المعتقل، وهو مصادرة شركته الخاصة لإنتاج الأفلام ضمن حملة التأميمات الاشتراكية، وتعيينه موظفاً في شركة سينما حكومية براتب تافه، الأمر الذي أثر كثيراً على معنوياته وقاده إلى مصاعب مالية تجلت في انتقاله للسكن وحيداً بشقة ضيقة في شارع رمسيس بالأزبكية، بعد أن قررت أسرته الهجرة إلى كندا.