في 30 أيلول (سبتمبر) الماضي أعلن الرئيس الأوكراني استعداداً للحوار مع روسيا "لكن مع رئيس آخر"، وذلك بعدما أعلن فلاديمير بوتين ضمّ أربع مناطق احتلّتها روسيا في أوكرانيا. وفي الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أصدر فولوديمير زيلينسكي مرسوماً يؤكد رسمياً "استحالة" إجراء محادثات مع الرئيس الروسي، وأبقى الباب مفتوحاً أمام "مفاوضات مع روسيا". في المقابل، ردّ الكرملين بأن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا لن تنتهي إذا استبعدت كييف التفاوض، وقال الناطق باسمه دميتري بيسكوف "إما سننتظر أن يغيِّر (زيلينسكي) موقفه أو ننتظر الرئيس المقبل لتغيير موقفه لصالح الشعب الأوكراني".

على رغم هذا الترافض العلني، يبدو النصف الأول من 2023 موعداً شبه معتمد الآن لإنهاء الحرب. كيف، وفي أي ظروف، وبأي وسيلة؟ بالتفاوض طبعاً، لكن من غير الواضح بعد وفقاً لأي معطيات وشروط، ولا الأفق السياسي والاستراتيجي للتسوية الممكنة. وعلى رغم أن مواقف الطرفين لا تزال متباعدة، إلا أن مؤشرات كثيرة تدلّ الى وجود "رغبات" هنا وهناك، في موسكو كما في عواصم الغرب، في أن يعود الطرفان الى التفاوض وأن يبلورا مباشرةً الحلول برؤية مستقبلية طالما أنهما سيبقيان جارين جغرافيين ولا سلامَ أو تعايشَ إلا إذا كانا "متوافقَين".

من أبرز المؤشّرات اللهجة التي تتسم بها مواقف الكرملين ومؤسساته لدى الحديث عن التفاوض، إذ كانت في السابق تعوّل أكثر على ضغط أميركي وغربي على كييف، لكن موسكو تركّز الآن على رفض الأوكرانيين التفاوض وتبرّر الهجمات الصاروخية على البنية التحتية للطاقة بأنها "نتيجة عدم استعداد كييف للجلوس الى طاولة المفاوضات". ومع أن سقوط الصاروخ الأوكراني "الطائش" في أراضي بولندا أمكن احتواؤه، إلا أنه أفاد الجانب الروسي من دون أن يكلّفه شيئاً وإن كانت واشنطن اعتبرته "مسؤولاً في نهاية المطاف" بحكم قصفه الصاروخي الكثيف على كييف وضرورة التصدّي له. وقد طرح الحادث أخطر التساؤلات على أعضاء "الناتو": ماذا العمل إذا سقط صاروخ روسي المرة المقبلة في بولندا، هل يكون ردّ مباشر أم ضبط نفس أم مجرد تبادل تحذيرات؟ الأكيد أن "الناتو" لا يريد أن يواجه وضعاً كهذا. وبالتالي فإن دوله تفضّل إطلاق تفاوض استباقاً لأي حادث أو استفزاز متعَمَّدين من جانب روسيا.

في سياق المؤشّرات أيضاً قول رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي مرتين أخيراً إن "هناك فرصة محتملة لإيجاد حل سياسي للنزاع". صحيح أنه بنى تقديره على أن "الروس في وضع سيء" ولا بدّ أنهم يرغبون في التفاوض، لكنه أكثر العارفين بحكم تواصله الدائم مع نظيره فاليري غيراسيموف بأن الرئيس بوتين لا يفكّر بهذه الطريقة ولا بحساب الخسائر. غير أن جون كيربي، منسّق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي، كرّر الأسبوع الماضي أكثر من مرّة اللازمة الغربية - الأطلسية القائلة بأن "الأمر متروك للرئيس زيلينسكي ليقرّر ما إذا كان مستعدّاً ومتى سيكون مستعدّاً للتفاوض، وما هو الشكل الذي سيتخذه هذا التفاوض". هذا الموقف الأميركي يستبطن من جهة إظهار "إيجابية" حيال التفاوض وتشجيعاً ضمنياً عليه، ومن جهة أخرى حرصاً على نأي مسبقٍ عن مجرياته ونتائجه المحتملة. لكن بوتين قال مراراً إن واشنطن هي التي تدير ديبلوماسية كييف، مثلما أن البنتاغون يشرف مباشرة على إدارة قتالها.

جاء موقف كيربي غداة اجتماع مديرَي الاستخبارات الأميركي وليم بيرنز والروسي سيرغي ناريشكين في أنقرة. تزامن لقاء الرجلين مع احتفال كييف باستعادة منطقة مهمّة واستراتيجية مثل خيرسون، بعد الانسحاب الروسي القسري منها، وبعد أقل من شهرين على إعلان بوتين ضمّها واعتبارها أرضاً روسية. تركّز كل ما نقل عن المحادثات الاستخبارية على "التحذير من عواقب استخدام الأسلحة النووية" ومن "مخاطر التصعيد الاستراتيجي"، بمعنى أن تنفيذ روسيا تهديدها النووي سيُسقط تلقائياً الضوابط الصارمة التي ألزمت أوكرانيا حتى الآن بعدم استهداف الأراضي الروسية، أو تلك التي التزمها "الناتو" باستبعاد الاحتمال النووي أو حتى التهديد به. وعندما تتبادل الاستخبارات التحذيرات من سوء التقدير فإن الأمر يكون قد بلغ ذروة الخطر، والذروة هنا أن تضطر روسيا الى "المستحيل" استباقاً للهزيمة، فهل باتت خيرسون المحطة التي يجب أن يتوقّف عندها الجميع، وماذا عن القتال المستمر بضراوة في دونتسك ولوغانسك؟..

كانت لهذه المحاذير أصداء واضحة في تأكيد الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، على هامش قمة الـ 20 في بالي (اندونيسيا)، اتفاقهما على "رفض استخدام السلاح النووي أو التهديد به". وبدا ذلك بمثابة رسالة مشتركة موجّهة الى ثالثهما الغائب بوتين، الذي استشعر في اللهجة التصالحية بين واشنطن وبكين وعزمهما على تبريد خلافاتهما، توجهاً مخالفاً لمصالحه وتمنياته ولما يبشّر به منذ بدء الحرب. لكن قمة بالي أرسلت الى بوتين مؤشّرات سلبية عدة، إذ أن مغادرة وزيره سيرغي لافروف عكست ضيقاً من الجو الدولي الرافض للحرب، ومن التعاطف مع أوكرانيا والاستماع الى رئيسها زيلينسكي متحدثاً عن "النصر في خيرسون" وعرضه رؤيته للتفاوض. ولعل قمة الـ 20، بموجب اختصاصها الاقتصادي، كانت المناسبة الأولى منذ الحرب التي تتعرّف فيها موسكو الى مواقف الحلفاء والشركاء والأصدقاء المفترضين، وهي تتلخّص بأن ما أبدوه من "تفهّم" للدوافع الأمنية لا يعفي روسيا من المسؤولية عن الأزمات المتشعّبة التي تسبّبت بها تلك الحرب لدول العالم كافة.

بالعودة الى اجتماع بيرنز - ناريشكين، حرصت واشنطن على توضيح أنه لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة، وأن كييف أُعلمت به مسبقاً، وأن بيرنز "لا يجري أي نوع من المفاوضات" و"لا يبحث في أي تسوية"، لكنها لمّحت الى أن وضع "المعتقلين ظلماً" كان قيد البحث. بعد اجتماع أنقرة، وزيادةً في التوضيح زار بيرنز كييف، وهي تحت القصف، إذ كان لديه ما يجدر إبلاغه الى زيلينسكي وأركان حكومته وجيشه، ويصعب تصوّر أنه لا يتعلّق مباشرة بخيارات التفاوض وآفاقه. أما كيربي فقال إن أحداً في واشنطن لا يستطلع الأمر مع الرئيس الاوكراني "أو يصرّ عليه أو يدفعه الى طاولة المفاوضات". هذ التأكيدات الأميركية قد تحمل وجهين متعاكسين.

الواقع أن التحديّات الى فرضتها الحرب وهمّشت بها مبادئ القانون الدولي بالغزو والاحتلال وضمّ أراضي دولة أخرى، لن تقلّ تعقيداً عن تحديّات أي سلام منشود من خلال المفاوضات. وفي كلمته أمام قمة الـ20 بدا زيلينسكي كمن يستجيب للموجة الدولية المطالبة بالتفاوض، عارضاً عشر نقاط استهلها بما يهمّ العالم (الاشعاع والأسلحة النووية، أمن الغذاء والطاقة، اطلاق جميع الأسرى) وانتقل الى قضايا الحرب (وحدة أراضي أوكرانيا، انسحاب القوات الروسية، وقف الأعمال العسكرية، عودة العدالة، الردّ على الإبادة البيئية، منع التصعيد، وتحديد نهاية الحرب). عدا أن لافروف اعتبر هذه النقاط "غير واقعية"، برغم بداهتها، فإنها عكست "نصائح" أميركية، لذا استفزّت موسكو التي فجّرت غضبها بمئة صاروخ ("10 مقابل كل نقطة"، بحسب زيلينسكي) دمّرت محطات الطاقة وتركت عشرة ملايين أوكراني بلا كهرباء، ما يؤكّد توقّعات "الناتو" بـ "شهور مقبلة صعبة لأوكرانيا" (ينس ستولتنبرغ) أي بشتاء بارد ومظلم، علّها تصبح أكثر استعداداً لتنازلات مسبقة كي تكون هناك مفاوضات "واقعية".