قاموس اللغة ثمرة من نشاط الإنسان في مجتمعه، ولغة الإنسان في المجتمع سبقت قاموس اللغة وأبجدية اللغة، ومعاني الكلمات المرسومة في القاموس عاجزة عن أن تعبر عن المعاني المتداولة في المجتمع بين الناس أو حتى المعنى المحسوس عند الفرد، والكلمات تتدرج في معانيها حسب حساسيتها في العلاقة بين الناس على سلّم طبقات المجتمع، وحسب الحالة النفسية لكل فرد. الإنسان بشخصيته الفردية والاجتماعية يدرك بالفطرة علاقة كلمة مرسومة في القاموس بكلمة أخرى أو بعض من الكلمات المتداولة في الحياة الاجتماعية أو في تأملات الإنسان الفرد، بينما يكتفي القاموس بإعطاء معنى محدود وفي إطار أضيق مما هو مكنون في نفوس الناس ومتداول في المجتمع.. الكلمة في قاموس المجتمع تحمل معاني أوسع وأعمق مما هي في قاموس اللغة، والكلمة في قاموس المجتمع قد تحمل معاني متناقضة على هوى النفس التي تنتقي الكلمة. من بين العدد الهائل من الكلمات، وهي في تكاثر مع تقدّم الزمن وتطور مناحي الحياة، يستفرد قاموس المجتمع، من بين كلمات عديدة، بكلمة لها خصوصية ضاربة في عمق نفسية الفرد والمجتمع، وتتحمل هذه النفس تبعات متناقضة عندما تتفاعل النفس في معترك الحياة وتكون الأنا ego محشورة في زاوية وترى نفسها في امتحان أمام المجتمع.. ثلاثة حروف تشكل كلمة ينفثها الذهن وتعبث بالنفس وتحط من مكانة العقل، أنها كلمة «شرف»، باسمها سالت دماء بريئة، وباسمها تفجّرت حروب، وباسمها يبحث فاشلون عن الشهرة، يظنونها شرفًا، مثلما فعل معتوه يوناني يسمى هيروستراتوس إذ أراد الشهرة والشرف وتخليد اسمه بإحراق معبد آرتميس وهو أهم معبد في مدينة إيفيسوس عام 256 ق. م. دون أن يراعي مشاعر بني قومه ولا مكانة المعبد، أو الفتى المغرر به مع جماعة إرهابية، حيث الفتى يبحث عن شهرة يظنها شرفًا، بينما قادة الجماعة يستغلونه لتحقيق أغراض أخرى، وما الشرف بغافل عما يرتكب باسمه في قتل المرأة تحت ذرائع ساذجة، ويباح القتل تحت شعار «جريمة شرف»، بينما هي جريمة ضد الشرف وضد الإنسان معًا.

كلمة «شرف» واضحة في قاموس اللغة، ولكنها مبهمة في قاموس المجتمع.. ولأن الأدب انعكاس للمجتمع، فإنه بدوره ينقاد لهوى المجتمع، ويدرج كلمة «شرف» في الأعمال الأدبية حسب المساحة المبهمة التي يجيزها قاموس المجتمع وليس المساحة الواضحة المحصورة في قاموس اللغة.. ساحة الشعر غنية بالعطاء فعندما نقرأ:

لا يسلمُ الشرف الرفيع من الأذى حتى يُراق على جوانبه الدم..

أو، الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ.. هذان البيتان من الشعر يجرّدان الشرف من ارتباطه بالاخلاق، إذ يعبران عن مفهوم دفين في ذهنية فئوية ضيقة، أو ثقافة اجتماعية منغلقة، وعلى النقيض من هذين البيتين يقول شاعر آخر:

قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع.. أي أن الشرف سمة مزروعة بالفطرة في نفس الإنسان بغض النظر عن كونه ثريًا او فقيرًا عفيفًا.. أمثلة كثيرة تكشف عن معان متناقضة وأخرى ترتد على الشرف بما يندى له جبين الشرف. المعني اللغوي للكلمة هو طهارة النفس والنزاهة وعلو الشأن، أي مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي توعز إلى الإنسان على عدم القيام بعمل يتسبب في فقدانه لتقديره لذاته أو احترام الآخرين له، وبمعنى آخر أن يكون سلوك الفرد متوازنًا ومتزنًا في علاقته مع الآخرين بما لا يلحق الأذى، ماديًا ومعنويًا، بالآخرين.

يولد الإنسان ونفسه صفحة بيضاء، وعقله كذلك صفحة بيضاء، أي أنه عند الولادة يكون طاهر النفس والعقل، لا تشوبهما أية شائبة من أسباب تناقضات الحياة. العقل والنفس في تفاعل دائم، وهما حاضران عند الشعور وعند التفكير، فلا الشعور مجرد من الفكر ولا الفكر مجرد من الشعور. هذا الارتباط بين العقل والنفس، أي بين الفكر والشعور، يجمع بين حرية العقل وشرف النفس، ونستنتج من هذا الرباط الملزم اللازم أن تعريف كلمة شرف لا يكتمل دون ربطها بمفهوم الحرية، وتعريف كلمة حرية لا تكتمل دون ربطها بمفهوم الشرف.

يولد الإنسان حرًّا بفكره وشريفًا في نفسه، فلا الحرية اكتساب ولا الشرف عطاء.. الشرف والحرية جناحان يطير بهما الإنسان، فهما مترابطان، أحدهما ظهير الآخر، اثنان برسم الكلام وواحد بِنَفسِ الروح، فلا شرف من غير حرية، ولا حرية من غير شرف.. قد يكون المرءُ شريفًا في ملبسه وثروته أو حتى سيفه، وحريته مرهونة لسيّده، والأمثلة أكثر من أن تحصى.. أعظم أمانة عند الإنسان، ومنذ ولادته، هي الحفاظ على حرّيته وشرفه، فمن فقد أحدهما فقد الآخر معه.. لا شرف من غير حرية، ولا حرية من غير شرف.. الحرية ثقة بالذات والشرف نزاهة في الذات، وبهما تستقيم مكارم الأخلاق، وليس من الأخلاق إلحاق الأذى لا بالغير ولا بالذات.. إن النفس المجرّدة من أفكار العقل أو عندما تستحوذ النفس على العقل قد تزل وتفقد الطريق وتهوي بصاحبها الإنسان إلى هاوية الردى، من جريمة ضد الغير أو بيع للنفس.. والعقل المجرد من أحاسيس النفس أو عندما يستحوذ العقل على النفس قد يدفع بصاحبه أن يركبه الغرور والتكبر والتعالي على الغير مما يشجّعه الاعتداء على حقوق الآخرين وشراء النفوس المهزومة وإحداث الفوضى في المجتمع الواحد والتعدي على المجتمعات الأخرى، وأقصى حدود الغرور هو صناعة الكوارث عبر الحروب.. ويا لحسرة الحرية والشرف، فإن البشرية منذ ولادتها وهي تتلهى بحريتها كي تعبث بحرية الآخرين، وتتجنّى على الشرف بأنماط من الجرائم والنزعات الأنانية التي يندى لها جبين الشرف..