إذا كان للتربية والدّين والدّولة أن تنهض بكبْح جِماح المنازع الحيوانيّة في الإنسان، وتهذيبِ سلوكه وأَنْسنته وازدراع القيم النّبيلة والإيجابيّة فيه، فإنّ إنسانيّته هذه لا تَكْمن فيه من حيث هو كائنٌ مفْرَد، منعزل عن المحيط، بل لا تأتيه إلاّ من انتمائه إلى الجماعة، واندماجه في نظامها الاجتماعيّ وانخراطه في فعاليّاتها الحياتيّة. هذا هو، بالذّات، ما تشير إليه العبارة الفلسفيّة اليونانيّة القائلة إنّ «الإنسان مدنيٌّ بالطّبع»، التي ردّدها ابن خلدون كثيراً وبنى عليها نظريّته في السّياسة والدّولة. وهي عبارة تشدِّد على ذلك الميْل الدّاخليّ لدى الإنسان إلى الاجتماع، أي تشدِّد على اجتماعيّته بما هي المبدأ الذي به تتحقّق إنسانيّتُه. وحينها - حينها فقط - يكون للتّربيّة والدّولة والدّين أثرٌ كبير في تنشئته على مثالٍ إنسانيّ.


يسلِّم مبدأ اجتماعيّة الإنسان بأنّه ما مِن غنَاءٍ له عن الجماعة كي يحقّق ذاتَه. إنّ ذاته ليست فرديّة، تماماً، وإنْ بدتْ كذلك؛ لأنّها لا تكون أصْلاً من غيرِ محيطٍ جماعيّ تتحقّق فيه، أمّا افتراضُها ذاتاً فرديّة منعزلة عن المحيط، أو مستغنية عن الجماعة، فليس افتراضاً لإنسانٍ مّا، بل لكيانٍ آخر غير الإنسان. لذلك شدّد أرسطو على أنّ الإنسان هو الكائن الذي يعجز عن العيش خارج الجماعة أو الاستغناء عنها؛ لأنّ الذي يستطيع أن يعيش منعزلاً عنها إمّا إله في غير ما حاجة إلى غيره، أو حيوان ضارٍ في القَفْر منعزلٌ عن القطيع؛ وليست تلك حال الإنسان.


نحن، إذن، لسنا أمام ظاهرةٍ مفهوميّة، ذهنيّة اسمها الإنسان، بل أمام ظاهرة واقعيّة، تاريخيّة اسمُها الاجتماع الإنسانيّ؛ ذلك الاجتماع الذي يتولّد من علاقاتٍ تشُدّ النّاس إلى بعضهم فيتولّد من الْتحامهم علاقاتٌ وظواهر اجتماعيّة أخرى. من النّافل القول إنّ مثل هذا الاجتماع لا ينشأ من مجرّد جمْع النّاس، كذواتٍ مفردَة، في نطاقِ مجموعٍ كمّيّ من الأفراد، وإنّما هو يتكوّن من علاقات التّفاعُل التي تقوم بين هؤلاء الذين ينتمون إلى الجماعة، والتي تؤمِّن لذلك الاجتماع استمرارَه وبقاءَهُ وإعادة إنتاجه. إنّها (العلاقات) وحدها التي تجعل منه اجتماعاً إنسانيّاً وليس مجرّد قطيعٍ بشريّ...

حاجة الإنسان إلى الاجتماع ضروريّة لأنّها حيويّة، أو تتوقّف عليها حياته. لذلك هو ليس مخيَّراً بين أن يُقْدِم عليه أو يُعْرِض لأنّ به يكون بقاؤُه. أمّا ما يفرض اجتماعيّةَ الإنسان فحاجتان، في المقام الأوّل، لا تتأتّيان له إلاّ بذلك الاجتماع: الغِذاء والأمن؛ اللّذيْن بهما يحفظ وجوده. وهذان لا يتمّان له إلاّ بتعاوُن بني جنسه عليهما.

ما يُملي التّعاوُنَ لتحصيل القوت أنّ هذا لا يتحصَّل للاَحاد من النّاس؛ لأنّ العمل بطبيعته مركّب وليس بسيطاً، أي يتألّف من سلسلةٍ من الفعاليّات المتّصلة تهيّئ حلقاتُها المتسلسلة لبعضها، ويتوقّف بعضُها على بعض. وهذه في جملتها ممّا تعجز قدرةُ الفرد الواحد على القيام به، الأمر الذي يستدعي شكلاً مّا من أشكال تقسيم العمل ينصرف فيه كلّ واحدٍ إلى إنجاز حلقةٍ صغيرة من حلقاته. هكذا يصبح العمل نفسه عملاً جماعيّاً لا فرديّاً، أي ظاهرةً اجتماعيّة، وتغدو حياة الإنسان المُفْرَد متوقّفة عليه وعلى ما ينطوي عليه نظامُه من تعاوُنٍ وتقسيم. ومنذ الجماعات الطّبيعيّة الأولى، قبل عشرات الآلاف من السّنين؛ أي منذ أصبحت يدُ الإنسان أداةَ عمل، نشأت أشكال جنينيّة أولى لتقسيم العمل تطوّرت مع الزّمن، ومع تعقُّد عمليّات الإنتاج إلى أنِ اتّخذت أشكالها العليا في العصر الحديث. ولم تغيّر التّكنولوجيا من هذه الحقيقة اليوم؛ ذلك أنّ الاعتياض عن العمل الإنسانيّ بالعمل الآليّ لم يُلْغ حاجة الإنتاج إلى التّعاون وتقسيم العمل؛ إذِ استمرّا في منشآت الإنتاج التي يقوم فيها الإنسان الآلي مقام الإنسان الطّبيعيّ بالعمل.

وممّا يملي ذلك التّعاون، أيضاً، حاجةُ الإنسان إلى تحصيلِ أمنٍ يمتنع عليه تحصيله بمفرده، ويفرض عليه الانتظامَ في نظامٍ من الجهْد الجماعيّ يتأمَّن به هدفُ الدّفاع عن النّفس ممّا يتهدَّدها. وليس الجماعي في الأمن والدّفاع الجهدُ القتاليُّ فحسب، بل توفير السّلاح وتصنيعُه أيضاً. وهكذا، تحوّل الدّفاع مع الزّمن من قتالٍ فرديّ بأدواتٍ طبيعيّة (الأيدي والأقدام والرّؤوس والعيدان...) إلى حرب، أي إلى ظاهرة اجتماعيّة تصهر قوى عدّة فيها: (صناعة، قرار، مقاتلون، مستلزمات خدمة يوميّة...)، لهدفٍ هو الدّفاع عن الذّات والمصالح...

جاز لنا، في هذا الضّوء إذن، أن نعتبر التّعاون ديناميّة من ديناميّات أَنْسنة الإنسان، وتربية وعيه على فكرة أنّه كائن اجتماعيّ لا غنى له عن المجتمع.