أخيراً تم توقيع «الاتفاق الإطاري» الذي يرسم طريق المرحلة الانتقالية في السودان، ويضع حداً للانسداد السياسي في هذا البلد العربي، بسب اختلاف الرؤى بين المكوّنين المدني والعسكري.

وقد عاد قبل أيام محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ومرشد الطريقة الختمية إلى الخرطوم قادماً من القاهرة، بعد غياب دام نحو عقد من الزمن تقريباً، حيث كان غادر السودان في سبتمبر/أيلول 2013، للمشاركة في التأسيس لسلطة مدنية انتقالية حقيقية.

وكنت قد قرّظت كتابين عن السودان خلال الفترة المنصرمة، الأول للدكتور محمد الزين محمد وهو حقوقي وناشط سوداني، وكتبت مقدمة له وهو بعنوان «السودان.. الطريق إلى الدولة المدنية»، وقد صدر في القاهرة 2020، وتضمّن يوميات عن الانتفاضة السودانية مع خلفيات الصراع الداخلي تاريخياً منذ الاستقلال وحتى إنهاء حكم الرئيس عمر حسن البشير، والثاني للخبير الدولي الموريتاني محمد حسن لبّات الذي كتب عن الدور الذي قام به في تحقيق المصالحة بتكليف من الاتحاد الإفريقي ودعم من إثيوبيا، بهدف نزع الفتيل واحتواء الوضع والحيلولة دون الاحتراب الأهلي، وبالتالي نقل السلطة إلى المعارضة بتقاسمها بين الجيش والمدنيين. والكتاب (كما أشرتُ في تقريظي له) سردية جميلة أقرب إلى رواية بحبكة درامية طعّمه بحكايات وقصص ومقابلات وحوارات وأسرار وتواريخ وخبايا وخفايا، دلّت على معرفة بالأوضاع السودانية.

وإذا كان الهدف الأول قد تحقّق، وهو تغيير النظام، فإن الأهداف الأخرى ما تزال عسيرة، وخصوصاً عملية الانتقال الديمقراطي. ولعل أحد العقد الأساسية؛ بل والتحديات الكبرى التي تواجه الوضع الجديد هي: كيف يمكن التعامل مع الماضي؟

وما السبيل إلى تحقيق العدالة ومعالجة آثار الارتكابات والانتهاكات التي حصلت خلال السنوات المنصرمة؟ وكيف يمكن توجيه الجهود صوب التنمية المستدامة بمعناها الإنساني الشامل؟

ومثل هذه الإشكالية سواء في السودان أو في بلدان أخرى، واستئناساً بتجارب دولية قادت إلى نقاش وحوار وسجال وجدال فيه الكثير من الحيوية حول فكرة العدالة الانتقالية التي لا يوجد فهم موحّد ورأي جامع مانع لها، فثمة رؤية تدعو إلى القصاص وتقديم جميع المرتكبين إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل وإيداعهم السجون، وأحياناً ترتفع النبرة إلى الانتقام والثأر والكيدية، ورؤية أخرى أقل انفعالاً وتشدّداً، وهي التي تدعو إلى تقليص دائرة المساءلة لتشمل الطاقم الحاكم الأساسي، بحيث لا ينبغي التوسع فيها تمهيداً لإحداث المصالحة.

وقد ضيّفني فريق المحامين الاتحادي للحديث عن مفهوم العدالة الانتقالية: الماهية والأهمية، ووجدت تفهماً كبيراً لدى مجموعة واسعة من النخبة التي حضرت الأمسية، وتقبّلًا لفكرة تطبيق العدالة الانتقالية، ولكن ثمة التباس وغموض أحياناً و«إرادوية» ومواقف مسبقة تارة أخرى.

فالعدالة الانتقالية، كما يدّل عليها اسمها، انتقالية أولًا ثم إنها مؤقتة ثانياً، وثالثاً أنها قانونية، بمعنى عدم مخالفة قواعد القانون، ورابعاً أنها معيارية؛ أي تضع معايير تسعى إلى تطبيقها، بعضها اجتماعي وسياسي وديني وقبلي ومناطقي وغير ذلك.

وتسعى إلى كشف الحقيقة كاملة إزاء ما حصل والمساءلة عن الارتكابات وعدم الإفلات من العقاب، وتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، وجبر الضرر على النطاق العام وإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، وأجهزة إنقاذ القانون.

كانت العدالة الانتقالية وسيلة لمعالجة آثار الماضي، سواء وفقاً لمنهج فقه القطيعة أو وفقاً لمنهج فقه التواصل عبر قناعات بمراجعة أخطاء وارتكابات الماضي، وإنصاف الضحايا، وتحقيق المصالحة دون الإخلال بمعايير العدالة، مع تنقية الأجواء باتجاه التسامح، لا سيّما بعد الاعتراف بأخطاء الماضي.

ومن التجربة، فإن البلدان التي سارت في طريق التواصل وتقليص دائرة العقوبات وحصرها في عدد من كبار المسؤولين فقط، وبأحكام غير ثقيلة، نجحت في الانتقال الديمقراطي وتحقيق المصالحة، وتمّت عملية التحوّل بسلاسة أكثر من غيرها، في حين أن البلدان التي سارت في طريق التشدّد تعثّرت وأخفقت.

ربما يعود الأمر إلى التعصب وهذا ينتج التطرّف، وبالتالي الإقصاء والتهميش، وهو رد فعل للماضي الشديد القسوة والبالغ الألم، ولكن هل نعيد دورة العنف إلى سابق عهدها؟ أم نتوجّه لتحقيق التنمية بما تتطلّب من مستلزمات مهمة، وواحدة منها تحقيق العدالة الانتقالية لإنجاز عملية التحوّل الديمقراطي. والسياسة في نهاية المطاف بحسب ابن خلدون بحث في الخير العام، وبالعدل يكتمل العمران وتُبنى الأمم، وكان عمر بن عبد العزيز هو الذي قال: «سوِّر مدينتك بالعدل».