بالحروب المُهلكة والاستعمار البَغيض -على مدى قرونٍ متتابعة- استباح الأعداء أراضيها، وسلب اللصوص ثرواتها، ونهب المعتدون خيراتها، واعتدى المجرمون على سكانها وناسها، وبغى المستعمرون القتلة على أهلها بأشد أنواع الظلم والقهر والاستعباد، وانتُهِكت فوق أرجائها الواسعة الفسيحة كل المَبادئ الإنسانية والقيم السَّامية والحقوق البشرية حتى أصبحت كرامة الانسان منسية لا مكان لها تحت ظُلم وجور وفجور الاستعمار الفظيع، هكذا هو تاريخ القارة الإفريقية مُنذُ أن وقعت -قبل قرون- تحت الاستعمار الأوروبي البغيض وحتى أُبعد عنها وانجلى قبل عقود قليلة بفضل صمود وثبات ومقاومة أهلها وناسها وسكانها. نعم، قد يعتقد الكثير أو الجميع بأن سوء هذا التاريخ الاستعماري البغيض يتوقف عند الممارسات الدنيئة، والسلوكيات الوضيعة، والأخلاقيات المعدومة، والذكريات المؤلمة، والصور القبيحة؛ ومع صحة ذلك كله، إلا أن الأكثر سوءًا والأعظم قُبحاً ووضاعة هو التجهيل المُمَنهج للإنسان الإفريقي، والتغييب المقصود للتنمية والتطوير، والتدمير المُخطط للأرض وما يمكن أن تقوم عليه بنية تحتية بالمستقبل، والتخريب المدروس لِمعالم الحضارة والثقافة والتاريخ الإفريقي. نعم، إن الأكثر سوءًا والأعظم قُبحاً هو أن يورِّث هذا الاستعمار الإجرامي البغيض -بعد قرونٍ متتابعة من الاحتلال المُباشر- بِلاداً فقيرة على الرغم من كُثرة وتعدد ثرواتها، وأُناساً جُهلاء عِلمياً بالرغم من عُمق تاريخهم الحضاري والثقافي، وتنمية معدومة تماماً في جميع المجالات على الرغم من الثروات والخيرات العظيمة التي تكتنزها أراضيهم، ومكاناً لجلب البشر واستعبادهم لتشغيل آلة الصناعة في بلاد المُستعمر الأوروبي. نعم، الجَهل، والفقر، والجوع، والأوبئة، والبؤس، والحرمان، والعوز، والحاجة، والإفلاس، والعَدَم، والفاقة، والمشقة، جميعها تَرِكة الاستعمار الأوروبي -والغربي- للقارة الإفريقية.

وهذه الحقيقة المُؤلِمة التي يؤكدها التاريخ المديد، ويدلل عليها حال القارة الإفريقية بعد مُغادرة المُستعِمر، ويشهد بها الواقع المُعيش في كثير من مناطق القارة الإفريقية، تغيرت قليلاً في بعض المناطق الإفريقية -بعد مُغادرة المُحتل- لتبدأ جزئياً بعض مظاهر التنمية والتطوير والتحديث. إلا أن هذه المحاولات الإفريقية الجريئة والمُشرِفة للنهوض من تركة الاستعمار البغيض لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الثروات والموارد الطبيعية والخيرات العظيمة التي تمتلكها وتكتنزها وتحتويها أراضي وشواطئ ومياه ومناطق وأقاليم القارة الإفريقية المُمتدة والواسعة. نعم، إن مكانة القارة الإفريقية عالمياً يجب أن تتناسب مع قدراتها وإمكاناتها العظيمة التي تمتلكها، ولكن لماذا لم يحدث ذلك في الماضي القريب والحاضر الذي نعيشه؟ وهل بالإمكان حدوث ذلك -بأن تكون إفريقيا عظيمة- في المستقبل؟

قد تكون الإجابة عن التساؤل الأول مُتضمَّنة في السِياق التاريخي الذي عاشته وخَبِرتهُ القارة الإفريقية عندما كانت واقعة تحت الاستعمار الأوروبي -الغربي- على مدى قرونٍ متتابعة. فذلك الاستعمار البغيض الذي ورَّثَ الآلام والمآسي على جميع المستويات، حرص -عند مُغادرته- على إبقاء القارة الإفريقية على حالها من البُؤس والعوَز والحاجة ليتمكن من مواصلة سياساته الاستعمارية بسلب ونهب وسرقة الثروات والخيرات واستعباد الشعوب. وهذا الحرص الأوروبي -الغربي- تمثل بمنع الشركات والصناعات المتقدمة من الاستثمار في القارة الإفريقية ليعطل التنمية، ويقلل فرص العمل، ويسهل التصدير الرخيص للثروات الطبيعية للمستعمر القديم، وكذلك تمثل بحرمان القارة الإفريقية من الاستفادة من التقنية والتكنولوجيات المُتقدمة لضمان تبعيتها المستمرة للمُستعمر القديم الذي يمُنُّ عليها بحاجاتها الأساسية، ويتمكن من مواصلة سرقة ثرواتها وخيراتها. نعم، إن بقاء القارة الإفريقية فقيرة ومُحتاجة وبائسة سياسة استعمارية قديمة جديدة تمكنت من جعل القارة الإفريقية الأقل تنموياً، والأضعف صناعياً واستثمارياً وتجارياً، والأكثر فقراً وجوعاً وجَهلاً، على الرغم من ثرواتها العظيمة. إلا أن هذه السياسة الاستعمارية القديمة الجديدة، وهذا الوضع البائِس الذي تعيشه مُعظم مناطق وأقاليم القارة الإفريقية، يبدو أنه يشهد في الوقت الحاضر مرحلة تغيُّر لما هو أفضل، أو تحول إيجابي، من شأنه أن ينهض بالقارة الإفريقية ويُحسن من أوضاعها وأحوالها بشكل عظيم في المستقبل القريب.

نعم، هناك تغير كبير وتحول إيجابي يحدث تجاه القارة الإفريقية -في وقتنا الراهن- خاصة من قِبل قوى الاستعمار القديمة -ليس من باب الرحمة والشفقة على القارة الإفريقية وشعوبها التي ظُلِمت لقرون-، وإنما من باب السعي الجاد والركض الحثيث لتعويض النقص الحاد في مصادر الطاقة التقليدية -النفط والغاز- الذي تسبب به الصِراع الروسي الأوكراني. نعم، فمُنذُ توقف إمدادات الطاقة التقليدية من جمهورية روسيا الاتحادية، بدأت القوى الأوروبية -الغربية- بالتوجه نحو القارة الإفريقية حاملةً معها خُططها ومشاريعها الاستثمارية، وعارضةً خدماتها وقدراتها التقنية والتكنولوجية، ومُقدمة عقودها الشرائية طويلة الأجل، طَمعاً ورغبةً منها في الحصول على إمدادات الطاقة التقليدية -النفط والغاز- بشكل دائم ومستقر في المستقبل. نعم، إننا نشهد في وقتنا الحاضر تحولاً عظيماً في السياسة الأوروبية -الغربية- تجاه القارة الإفريقية، حيث أصبحت مكاناً وهدفاً للاستثمارات الغربية في مَجالات الطاقة التقليدية العظيمة التي تمتلكها، بعد أن كانت مُهملة ومُهمشة وغير مُستهدفة بالاستثمارات الغربية لِقرون وعقود متتابعة.

وفي الختام من الأهمية القول إن تحولات وظروف السياسة الدولية الراهنة، وما نتج عنها من أزمة حادة في مصادر الطاقة العالمية، وضعت أمام القارة الإفريقية فرصا عظيمة لتحقيق النهضة الشاملة في جميع المجالات، والانطلاق سريعاً نحو الفضاءات العالمية، بما تملكه من ثروات وموارد طبيعية وخيرات عظيمة تكتنزها أراضيها ومياهها الشاسعة، وتحتاجها بإلحاح القوى الصناعية العالمية. نعم، لقد فتحت أزمة الطاقة العالمية أبواباً عظيمة كانت مُغلقة أمام القارة الإفريقية، إلا أن هذه الأبواب تحتاج -للسَّير والمرور عبرها نحو المستقبل المُشرق- إلى خُطط واستراتيجيات مُعدة إعداداً صلباً، وموضوعة بإتقان شديد، ومُحكَّمة تحكيماً عالياً، وآليات دقيقة لمنع الفساد وكبح التجاوزات. هكذا هي ظروف السياسة الدولية، ففي الوقت الذي تُغلق فيه أبواباً وتُنهى فيه فُرصاً كانت مُتاحة لِطرف أو أطراف دولية، فإنها تفتح أبواباً كانت مُغلقة وتتيح فرصاً لم تكن مُتوقعة لطرف أو أطراف دولية كانت يائِسة؛ إلا أن تحقيق النجاحات ليس وليد الفرص فقط، وإنما تحقيق الاستفادة القصوى من تلك الأبواب التي فُتحت والفرص التي أتيحت.