دخل السقف الذي فرضه الاتحاد الأوروبي ومعه دول غربية أخرى حيز التنفيذ الإثنين. والسقف قدره 60 دولارا. هذا قيد يفرض لأول مرة وبهذه الطريقة على سلعة استراتيجية.

لن أدخل في تفاصيل الإجراء وطريقة اتخاذه، بل سأحاول مناقشته من حيث حيثياته ومداه وتأثيراته ومدلولاته على مستقبل التجارة الدولية، إضافة إلى الدروس التي قد نستقيها منه.

صار للدول الغربية مدة طويلة وهي تناقش القرار. قيل إن تأخير صدوره كان مرده خلافات على السقف، أي السعر الذي ستسمح به لتداول النفط الروسي في الأسواق العالمية.

وبعد أخذ ورد استمرا أشهرا، خرج القرار. والقرار لا يجوز الاستهانة به، لأن تبعاته، في حالة فشله أو نجاحه، ستكون كبيرة لا محال.

كثيرة هي التوقعات، وهي متشعبة، لكن أغلبها تنحو صوب أن القرار جاء من أجل القرار، وليس لأن متخذيه كانت لهم قناعة بنجاحه.

كان الغربيون أمام أمرين، الأول، إن عدم التوصل إلى قرار سيكون مؤشرا واضحا لفشل حملتهم الاقتصادية ضد روسيا، والثاني، اتخاذ قرار لا يؤثر في إمدادات الذهب الأسود في الأسواق الدولية، وكذلك يجنبهم واقتصاداتهم المنهكة قفزة حادة في الأسعار.

ما يميز أسواق النفط، وفي الحقيقة السوق الدولية حاليا، عدم الثبات والتقلب ما يجعل التنبؤ بما يمكن أن يحدث حتى في المستقبل القريب أمرا عسيرا.

لكن في رأيي المتواضع، كان قرارا متواضعا وينم، حسب ما أتت به وكالة "بلومبيرج" الأمريكية، عن "عدم يقين تام" بما تخبئه الأيام.

لذا فإن نجاح أو فشل القرار سيعتمد بالدرجة الأساسية على أوضاع الأسواق من حيث العرض والطلب وعوامل أخرى.

مهما يكن من أمر، فإن القرار سابقة غير حميدة في التجارة بين الدول ويرسل أكثر من إشارة وفي أكثر من اتجاه، أن الدول القوية لن تتوانى عن فرض قيود على تجارة أي سلعة أو أي دولة، ولها من الذرائع الجاهزة الكثير.

والقرار ربما إيذان ببداية النهاية للتجارة الحرة بين الدول، لأن إن كان في إمكان الحكومات الغربية فرض قيود على صادرات النفط التي تشكل عماد اقتصاد دولة عظمى، فما عساها أن تفعل مع دول أخرى.

هناك كثير مما كان يخفيه المزاج المتفائل للدبلوماسيين الغربيين وابتساماتهم العريضة.

ولهذا أتت تعليقات الصحف الغربية ومواقف المختصين بشؤون تجارة النفط وأسعاره على غير ما تشتهيه الحكومات الغربية، لا بل كان هناك بعض السخرية من المدة التي استغرقها هذا القرار وحيثياته.

صحيفة "ذي هيل" توقعت أن يواجه الغرب إخفاقا لا سابق له لأن القرار صيغ لكي لا تعاني الاقتصادات الغربية، خصوصا الأوروبية منها، صدمة قلة المعروض وارتفاع الأسعار، وهذا معناه لا يمكن الاستغناء عن النفط الروسي.

وكتبت مجلة "الإيكونوميست" أن معادلة خفض إيرادات روسيا من بيع نفطها مع تجنب عجز في الأسواق الدولية وارتفاع حاد للأسعار قد تكون صعبة المنال. وكانت استجابة الأسواق عكس التوقعات، أي حتى الآن في إمكان الساسة الغربيين الحفاظ على ابتسامتهم، لأن أسعار النفط بعد دخول القرار حيز التنفيذ انخفضت دون 80 دولارا للبرميل.

وليس من الغرابة أن نقرأ أن بعض المحللين يرون أن القرار هدفه حماية شركات التأمين الغربية التي حتى الآن كانت مترددة في تأمين شحنات النفط الروسي.

بعد القرار، يحق لهذه الشركات تأمين ناقلات النفط روسية المنشأ إن قدمت الدليل أن سعر برميل النفط على متنها لا يعبر سقف 60 دولارا.

وسعر النفط الروسي "الخام من الأورال" منخفض أساسا مقارنة بنفط الشرق الأوسط مثلا بسبب نوعيته، وهبط سعره عند الإغلاق الثلاثاء إلى نحو 62 دولارا للبرميل.

وكانت روسيا أساسا تبيع نفطها بخصومات كبيرة إلى مشترين من آسيا، خصوصا الصين والهند وتركيا قد تصل أحيانا إلى 20 دولارا.

والأسواق الآسيوية للنفط أسواق ناشئة ونهمة والسيطرة عليها ليست سهلة أبدا لأن عطشها للنفط يجعل الدول في هذه البقعة تطرق أي باب للوصول إليه.

وهناك أيضا محاولات حثيثة من شركات تأمين صينية وروسية وهندية لتأمين الناقلات التي تحمل النفط الروسي. بالطبع التأمين الغربي للناقلات مرغوب كثيرا، لكن مجرد محاولة شركات روسية وآسيوية القيام بالمهمة كان أشبه بناقوس إنذار لشركات التأمين الغربية.

والتقارير حول انخفاض وارتفاع أسعار النفط في الغالب ترافقها عبارة "المخاوف المتنامية" بشأن الطلب صعودا أو هبوطا. وإن علمنا أن العالم الذي نعيشه اليوم عالم المخاوف، لصار جليا أن القرار اتخذ وكل المخاوف في عين الاعتبار، وأتى بصيغة تلبي هذه المخاوف.

بمعنى آخر، من الصعوبة بمكان حرمان الأسواق العالمية من صادرات دولة مثل روسيا تعد ثاني أكبر منتج للنفط في العالم بعد السعودية.

هناك كثير يمكن سرده للتدليل على أن روسيا قد لا تخسر كثيرا، وربما تربح، لكن الرسائل التي يبعثها القرار سيكون لها وقع خصوصا بالنسبة إلى الدول المصدرة للنفط، والعرب تقول "اللبيب بالإشارة يفهم".