حين انكفأت الراية العربية بعد سقوط بغداد، تداول حملَها الفرس والأتراك وظهرت دول عديدة منها دول البويهيين والسلاجقة، ثم استعاد العربُ حضورَهم حين ظهرت دولة الفاطميين في المغرب ومصر، وظهر الحمدانيون والزنكيون والأيوبيون والمماليك في مصر وبلاد الشام، كما ظهرت دول الموحدين والمرابطين والأدارسة في المغرب. وكان الفاطميون قد أسسوا أولَ خلافة شيعية، انتهت بظهور دولة صلاح الدين الأيوبي الذي تصدى للفرنجة وأسس دولتَه كامتداد للدولة الزنكية. وانتهت دولةُ الأيوبيين إلى دول المماليك التي انتهت بدورها بظهور الدولة العثمانية. وكان الصراع بين الأتراك والفرس أقدَم من ظهور الإسلام، إذ نشبت بينهما حروبٌ ضخمة في القرن السادس الميلادي، ثم وحّد بينهم الإسلامُ، لكن فرقتهما المذاهبُ والطموحات فتوالت الحروب بين الصفويين والعثمانيين، وكانت بدايتها معركة جالديران في مطلع القرن السادس عشر، واستمرت إلى الحرب العثمانية القاجارية ومعاهدة أرض روم، في القرن التاسع عشر.

وقد حرصت إيران وتركيا في القرن العشرين على تعزيز الصِّلات السلمية بينهما وطي صفحة حروب الماضي، وبقي لكل دولة منهما مشروعها ونظامها الخاص، وبقيت سوريا وبلاد الشام الفسحة الأكبر بينهما. وبعد انهيار الدولة العثمانية ساد في بلاد الشام شعورٌ رسمي بالعداء لتركيا وللتاريخ العثماني كله، وكانت العلاقات بين سوريا وتركيا شديدة الجفاء في القرن الماضي، حتى أنها وصلت حافة الانفجار في التسعينيات بسبب قضية عبد الله أوجلان، وجاء الحسم باتفاقية أضنة. ومع استلام أردوغان رئاسةَ الوزراء في تركيا بدأ تحسن العلاقات بين البلدين، ووصلَ ذروةً عاليةً في العقد الأول من القرن الراهن، ورأت تركيا في سوريا بوابةً تنطلق منها لتعميق صلتها بالعالم العربي، وتعويضاً عن القبول في الاتحاد الأوربي، حيث بدأت تركيا تركز على عمقها العربي والإسلامي وعمقت علاقاتها مع إيران.

وحين بدأت المأساة السورية عام 2011 حرصت دول شقيقة وصديقة على مساعدة الحكومة السورية في إطفاء النيران قبل أن يتسع لهيبها، وكانت الإمارات والسعودية وتركيا من أبرز المتدخلين لإطفاء الحرائق، وتكررت الزيارات لسوريا بغية التشاور والنصح وتقديم العون، لكن التدخلات الإقليمية الأخرى كانت أقوى تأثيراً، وتصاعدت الحرائق وتباعدت المواقف. وبحكم الجوار استقبلت تركيا ملايين اللاجئين السوريين الذين طال أمد لجوئهم. ومع ظهور القضية الكردية في الشمال الشرقي السوري، خشيت تركيا من التداعيات وانغمست في الصراع السوري. ومع تزايد التدخلات العسكرية الدولية، تحولت تركيا إلى طرف في الصراع، وتصاعد سعيها للتوازن في علاقاتها مع إيران وروسيا، فباتت عضواً معهما في ثلاثي آستانة.

ومع أن مسار التقارب الراهن بين أنقرة ودمشق قد تعثر، لصعوبة الشروط التي تبادلها الفريقان، فإن الحديث عن القرار الدولي 2254 دفع الخارجية الإيرانية للحضور في مسار الحدث، لاسيما بعد أن ظهر موقف عربي مؤيد لمسار التقارب.

وبقي السؤال الدائر: هل يمكن لهذا التقارب أن يتجاوز الشروط المعلنة صعبة التحقق؟ وهل يمكن أن يتنازل أحد الطرفين عن تفسيره للقرار الدولي 2254؟ وهل ستقبل إيران بتغيير دورها في ملف الصراع السوري؟ وهل ستكون الولايات المتحدة راضية بتصاعد التفاهم العربي التركي الروسي؟ وهل يمكن إجراء مصالحات بين السوريين، عرباً وكرداً، في شرق الفرات وغربه؟

سيبقى مفتاح الحل بيد روسيا التي تملك التأثير الأكبر على دمشق.. وفيما تتنافس دول كبرى على حصتها من النفوذ، يغرق ملايين السوريين في أوحال غربتهم ومنافيهم.