تساقطت الأمطار الغزيرة في ولاية أوكلاند النيوزيلندية لمدة 15 ساعة متواصلة من دون انقطاع، ما أثار مخاوف السكان، ولم يصدّق بعضهم ما رأوه للمرة الأولى في حياتهم: الوحول الجارفة ملأت المستنقعات وجرفت في طريقها الأشجار والمزروعات، والشوارع تحوَّلت الى بحيرات غير صالحة لسير السيارات ولا للمشي على الأقدام، وكميات الأمطار التي نزلت من السماء الى الأرض خلال هذه الساعات المحدودة؛ تزيد على 249 ملم، وهي كمية تزيد على 75% عن كامل المتساقطات الصيفية في البلاد.
شعر سكان نيوزيلندا الخمسة ملايين بأن شيئاً جديداً دخل على دورة الطبيعة، وهو يحمل مؤشرات مناخية غريبة لم يعتادوا عليها من قبل. والجُزر الستمئة التي تتألف منها الدولة، والمنتشرة في المحيط الهادئ جنوب قارة «استراليا» تخشى برمتها من غضب الطبيعة، ويخاف سكانها من عجزهم عن احتمال المخاطر التي شاهدوها في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، إذا ما تكررت. وما حصل في أوكلاند (أكبر مدن الدولة)، يمكن أن يتكرر في العاصمة ويلينغتون، أو في أي مدينة أخرى، كما أن انزلاق التربة والجرف القاسي الذي حصل في البلدات الريفية في الولاية؛ قد يطال في المستقبل أياً من المناطق الأخرى، وربما يتكرر في أي بقعة من هذا العالم المضطرب.
والبنى التحتية في أغلبية مدن العالم غير مُهيأة لاستيعاب كمية الأمطار التي سقطت في وقت واحد، كما حصل في أوكلاند. ومن الصعوبة بمكان لأي إدارة إنقاذية، أو لأي وحدة مخصصة للتعامل مع الكوارث الطبيعية، أن تواجه السيول الجارفة التي انطلقت بسرعة فائقة بين الوديان وعلى الطرقات وتسبّبت بأضرار جسيمة. وقد اقتصرت أضرارها هذه المرة على سقوط 4 قتلى وعدد من الجرحى وغرق مئات المنازل وجرف ملايين الأشجار ومئات البيوت الزراعية في أوكلاند، بينما قد يرتفع منسوب الخسائر الى مستويات أعلى في أماكن أخرى من العالم في حالات مشابهة. وما حصل بألمانيا في شهر يوليو/ تموز 2021 يؤكد هذه المقاربة، فقد حصدت السيول والفيضانات أضراراً أكبر بكثير مما وقع في نيوزيلندا، وقتل ما يزيد على 180 شخصاً، ووقعت خسائر تقدر بمليارات اليورو.
لا يوجد بلد في العالم بمنأى عن الكوارث الطبيعية المتزايدة، وأغلبية هذه الكوارث متأتية عن تغييرات مناخية واضحة حصلت في السنوات الأخيرة الماضية، لا سيما السيول والعواصف الشديدة وتدني درجات الحرارة الى مستويات قياسية احياناً، أو ارتفاعها الى سقوف عالية جداً أحياناً أخرى، وقد تكون ثورة بعض البراكين في عدد من الأماكن مرتبطة بهذه التغييرات المناخية، متأثرة بالتلاعُب الكبير في حرارة بعض طبقات الغلاف الجوي، من جهة، أو ربما بحرارة بعض طبقات باطن الأرض من جهة ثانية.
كما في نيوزيلندا، كذلك بعض مدن الولايات المتحدة التي أصابتها العواصف الثلجية غير المسبوقة أواخر العام الماضي، خصوصاً في ولايتي كانتاكي ونيويورك؛ فأخفقت التجهيزات اللوجستية المخصصة للتعامل مع قساوة الطبيعية عن تلبية الحاجات المطلوبة، وعجزت فرق صيانة الطرقات عن فتحها خلال الوقت المخصص لذلك، كما فشل عمال الكهرباء في معالجة الأعطال التي حرمت مئات الآف المنازل من التيار، والوسائل التقليدية المعتمدة للتدفئة في السيارات وفي المنازل؛ لم تستطع التعامل مع البرودة الفائقة، وتعرض بعضها لأعطال ناتجة عن طول مدة الإستعمال، أو بسبب اشتداد العواصف، ما أدى لموت عدد من الأشخاص من جراء الصقيع، أو لأنهم لم يتمكنوا من الوصول الى مخازن التغذية.
هذه العوامل تفرض على إدارة تنظيم المدن، وعلى المؤسسات التي تهتم بالسلامة العامة، أن تعيد النظر في الوسائل التقليدية المعتمدة لمواجهة تزايد الكوارث الطبيعية الناتجة عن ظهور أعصارات كبيرة، لم يعتد على مثل قساوتها العالم من قبل.
الخبراء البيئيون الذين شاركوا في قمة المناخ 27 التي انقعدت في مدينة شرم الشيخ المصرية في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022؛ يتفقون على أن التغييرات المناخية ناتجة عن اختلال في حرارة بعض طبقات الغلاف الجوي، واصطدام الكثل الهوائية الدافئة الصاعدة من فوق الأرض والمحيطات بالطبقات الباردة في الأجواء العالية ما يؤدي الى متساقطات غير عادية ناتجة عن زيادة التبخُّر، ويُحدث اضطرابات قاسية في حرارة بعض الأمكان التي تضربها الكتل الهوائية على الأرض.
العالم أمام تحديات جديدة، وإهمال الالتزام بتوصيات اتفاق باريس للمناخ للعام 2015، يعتبر ضرباً من ضروب الجنون السياسي وشراهة استثمارية ليست في مصلحة البشرية.
التعليقات