فكرة التجسس عبر المناطيد تدخل الساحة الدولية من جديد بعد ظهور بالون صيني فوق الأراضي الأميركية، فاليوم الجميع يملك الأقمار الصناعية ولكن القليل من يستطيع إرسال منطاد بحجم كبير يطير على ارتفاعات ليست بالقليلة، حيث يمكن للدول التمويه من خلاله والادعاء بأنه مجرد منطاد لجمع معلومات غير حساسه، بينما قد يكون الأمر مختلفا ويكون الهدف تمرير مشروع تجسس.

تاريخيا يُعد الفرنسيون هم أول من استخدم بالونات الاستطلاع في معركة فلوروس ضد القوات النمساوية والهولندية في عام 1794م المناطيد أو البالونات الكبرى عادة تطير على ارتفاع بين 24 - 37 ألف متر، وهذا الارتفاع يتفوق على المجال الذي تستخدمه الطائرات دوليا والتي لا تتجاوز في ارتفاعها 12 ألف متر.

المناطيد هي عبارة عن قطع وكاميرات يتم توجيهها فوق منطقة معينة، وهي غالبا يتم حملها عبر الرياح وقد تستخدم الطاقة الشمسية في توفير الطاقة لإدارة اتجاهاتها، المناطيد سياسياً أداة استفزازية لأن ظهورها يعكس المخاطر أكثر من إرسال الأقمار الصناعية التي تملأ الفضاء حيث جميع الدول تراقب بعضها سواء لأهداف نبيلة أو أهداف تجسسية، والمناطيد غالبا ذات تكلفة أقل وسهلة في إعادتها إلى الأرض، وهي في الواقع توفر مسحا كبيرا للمناطق التي تمر فوقها وخاصة أنها دائما على ارتفاع منخفض، لذلك تقضي المزيد من الوقت فوق منطقة معينة كونها تتحرك ببطء أكثر من الأقمار الصناعية، وهي توفر الفرصة لحمل الكثير من الأدوات المطلوبة للمراقبة أو التجسس على بلدان أخرى.

المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية "باتريك رايدر" قال إن الحكومة الأميركية تتبع المنطاد الصيني منذ عدة أيام، في حين يحلق فوق شمال الولايات المتحدة، لافتا إلى أنه يحلق على مسافة أعلى من حركة الطيران التجاري، ولا يشكل تهديدا عسكريا أو ماديا على الناس على الأرض، بعد هذا الإعلان تبادلت الصين وأميركا التصريحات حول هذا المنطاد، فالصين أكدت أنه لأغراض سلمية وأنه انحرف عن مساره ودخل أميركا بسبب الرياح، وبغض النظر عن تلك التصريحات إلا أن دخول المنطاد تحول إلى قضية سياسية، فحتى وزير الخارجية الأميركية غير موعد زيارته للصين التي كان مقررا أن يقوم بها في بداية هذا الأسبوع.

المنطاد مر من فوق ولاية مونتانا وهي ولاية قليلة السكان ولكنها موقع لواحد من ثلاثة حقول مهمة للصواريخ النووية الأميركية، وتحديداً في قاعدة مالمستروم الجوية، المنطاد بحسب التصريحات الإعلامية للمسؤولين الأميركان قالوا إن المنطاد على ما يبدو كان يحلق فوق مواقع حساسة لجمع المعلومات، ومع ذلك استبعد الأميركان إسقاطه خوفاً من خطر بيئي قد يسببه سقوط الحطام على الناس وعلى الأرض.

من الواضح أن أجواء حرب باردة بين الصين وأميركا سمح لها بالظهور في وقت يبدو فيه العالم يعاني من القلق الشديد وهو يستعد لأوضاع غير مستقرة سياسية واقتصادية، خاصة أن مؤشرات الصراع الروسي - الأوكراني تتجه نحو مسار مقلق ومثير للأسئلة ويصعب التنبؤ بمنتجاته، ولذلك لا يمكن اعتبار قضية المنطاد الصيني مجرد قضية عابرة لا تستحق التعليق، مثل هذه الحادثة سوف تغير من صورة التنافس الصيني في العقل الدولي، فحتى المعلقين والمحللين في المجال السياسي قد يصعب عليهم تفسير هذا الحدث وأهداف ولماذا في هذا التوقيت، ولماذا تحتاج الصين أن ترسل بالونا طائرا لدراسة الأوضاع البيئية؟، كل هذه الأسئلة مهمة ومنطقية للتفسير.

مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية ويليام بيرنز، وصف الصين في تصريحه بأنها "أكبر تحد جيوسياسي يواجه الولايات المتحدة حاليا" لذلك فمن الطبيعي أن يزيد البالون الصيني فوق أميركا التوتر بين البلدين ومن الطبيعي أيضا أن ينعكس ذلك على العالم مهما كانت درجة حسن النوايا الصينية، الفكرة الأهم هي احتمالية انتقال فكرة المناطيد لتظهر فوق سماء دول الشرق الأوسط أو أوروبا أو شرق آسيا وخاصة في المناطق المتحالفة مع أميركا أو مع الصين.

النظام العالمي يعيد تشكيل صيغته التنافسية ولن تكتفي الصين وأميركا بالتنافس التجاري وخاصة أن الحرب الأوكرانية - الروسية تفرض على أميركا والصين شكلا من الاستعراض العسكري وكشف للقوة، فروسيا الحليف الظاهر للصين لن تتخلى عن الجغرافيا الاستراتيجية من حولها لصالح حلف الناتو، بل يستحيل حدوث ذلك لأن قرب حلف الناتو من روسيا إلى درجة تواجده في كييف يعني خطرا جيوسياسيا على روسيا، وهذا لن يحدث إلا بثمن كبير، ولذلك فإن ظهور البالونات أو غيرها من المؤشرات المثيرة للجدل هي رسائل دقيقة وواضحة بأن التغيير الجيوسياسي في أوروبا لن يكون سهل التناول.