تزايد في الفترة الأخيرة تركيز خبراء السياسة المهتمين بتحليل الملفات السرية للتوسع في العمل المخابراتي، والذي ظهر مع توسع دور أجهزة المخابرات في التأثير عن قرب في أحداث عسكرية وسياسية أيضاً.

واحتل اهتمامهم محاولة الإجابة عن سؤال يقول: هل يمكن اعتبار ما حدث في الإفراط في لعب أجهزة المخابرات دوراً رئيسياً في النزاع بين الغرب وروسيا، مؤشراً لاستخدام هذا النموذج قاعدة لأحداث تقع في العالم مستقبلاً؟ مع الأخذ في الاعتبار خروج هذا الدور إلى العلن، بعد إن كانت أجهزة المخابرات في بعض الدول تقوم بدورها في خلفية إدارة السياسة الخارجية، وليس في واجهتها الأمامية، ممثلة في وزارة الخارجية.
ومع صعود الدور المخابراتي في عملية صناعة سياسة الدولة، ورغم نفوذها في الخارج، وشيوع العلم بهذا الدور داخل الدولة نفسها، فإن ذلك جعل الرأي العام يتلقاها باعتبارها من المهام تدعم الدولة خارجياً. ما يتيح لتلك الأجهزة مساحة لم تكن لها من قبل، للحركة والنفوذ.
وطبقاً لما ذكرته الدراسة المطولة لاثنين من الخبراء في هذه الشؤون، وهما: هيو دايلان المختص بالشؤون المخابراتية والأمن الدولي، بإدارة دراسات الحرب «كلية كينغز كوليج» في لندن، والبروفيسور توماس ماغواير أستاذ الدراسات المخابراتية والأمنية بمعهد الشؤون الدولية في الكلية نفسها، وهي الدراسة التي نشرتها دورية «سيرفا يفال»، فإنه يمكن أن يكون من المعتاد أن نرى أن يكون شيوع معلومات عن هذا الدور المخابراتي بين الرأي العام شيئاً مألوفاً. وإن ما تقصده أجهزة المخابرات من خلق حالة من الانتشار لما تحت يدها من معلومات مقصود منه بالدرجة الأولى تأكيد نفوذها خارج بلادها، والتأثير في تفكير من يتلقونها في دول أخرى، وإن كان ذلك لا يمنع من تزييف معلومات، تتفق مع إدارة الدولة لسياستها في أزمات خارجية. وهو ما حدث من صدور معلومات من واشنطن ولندن باعتبارها صحيحة، رغم تضمينها سيلاً من المعلومات المخابراتية الزائفة بشأن روسيا، باستثناء صور الأقمار الصناعية الموثقة. وهو النهج نفسه الذي سار عليه الكرملين.
هنا، يلقي البروفيسور أوستن كارسون في كتابه «الحروب السرية» Secret Wars الضوء على المزج بين الدورين السياسي والمخابراتي، في جانب من هذه السرية. في الوقت نفسه الذي تحرص فيه الدول الكبرى على إحاطة السرية في حروب خارجية بالكتمان، تأكيداً لما تعلنه من أن دورها يجرى في نطاق محدود، وأيضاً لتخفيف قلق الرأي العام من التورط في حرب غير محدودة، وإن كان مدى الجانب السري في تلك الحرب لن يظل خافياً.
وفي تصوير لرد الفعل الداخلي في الولايات المتحدة للدور الأمريكي السري غير المعلن عنه في حرب أوكرانيا، فقد أشار إليه الكاتب توماس فريدمان في مقالة بصحيفة «نيويورك تايمز» في 6 مايو/ أيار 2022 بقوله: إن الحرب الجارية في أوكرانيا تمثل خطراً متزايداً على أمريكا، وإن الرئيس بايدن يعرف ذلك. بعد أن تكشف في شهري إبريل/ نيسان، ومايو/ أيار أن المخابرات الأمريكية ساعدت القوات الأوكرانية على استهداف ضباط روس من ذوي الرتب العالية وقتلتهم. وأيضاً عملية إغراق السفينة «موسكوفا»، وهي من قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود.
وجاء تسرب هذه المعلومات بمثابة نفي لما هو مشاع من أن تدخّل الولايات المتحدة وحلف «الناتو»، يقتصر على دعم أوكرانيا، من دون التدخل المباشر في الحرب الدائرة هناك.
وهو ما أشار إليه كتاب «الحروب السرية» من أن قادة القوى الكبرى يحرصون على سرية تورط دولهم في أعمال، يؤكدون بأن ما يقومون به يجري في نطاق محدود، وإن كان مضمون العمل المخابراتي يظل محاطاً بالكتمان، ثم إن المسلّم به أن أجهزة المخابرات لديها حدود لا تتخطاها لتجنب الكشف عن أسرارها.
إن مناخ الحصول على المعلومات، وأيضاً ذيوعها قد تغير في عالم تتضارب فيه المعلومات الصادرة من أطراف بينها نزاعات، أو للوصول إلى التأثير في دول ليست طرفاً معها في أي نزاع، ما يفتح الباب أمام شيوع المعلومات المضللة.
وإن ما يثير الاهتمام على مستوى العالم لهذا الاتساع للدور المخابراتي، وما حققه من نتائج لمصلحة أوكرانيا في المواجهات العسكرية مع روسيا، يدعو للقلق من إمكان أن يمثل ذلك نهجاً يتكرر في أزمات أخرى مستقبلاً.