شهدت معدلاتُ التضخم في العديد من مناطق العالَم بعضَ التراجع في الآونة الأخيرة، مما أتاح مساحةً من الأمل بإمكانية تحقيق المزيد من التقدم الرامي إلى تخفيض التضخم والوصول به إلى النِّسب المستهدفة في أوروبا والولايات المتحدة البالغة 2%، حيث أدى ذلك للتخفيف من معدلات رفع أسعار الفائدة التي رُفعت الأسبوع الماضي في الولايات المتحدة بنسبة 0.25% فقط، وهي أصغر زيادة منذ عام تقريباً، ليصل سعر الفائدة إلى 4.75% والذي يعتبر الأعلى منذ 15 عاماً، وهو ما فعلته معظم البنوك المركزية الخليجية. كما تم رفع سعر الفائدة بنسبة 0.5% في كل من منطقة اليورو والمملكة المتحدة.
ومع أن نسب التضخم في الغرب انخفضت إلى 8.5% في المتوسط، إذ لم تتجاوز 10% في بعض البلدان، فإن العوامل التي دفعت بنسب التضخم للأعلى، والتي سأتناولها لاحقاً، ما زالت غير مستقرة، وهو ما دفع رئيس الاحتياطي الأميركي «جيروم باول» إلى التحذير من أن «المعركة لم تنته بعد». وهو تحذير يحمل الكثير من المصداقية؛ إذ هناك اتجاهان لهذه المعركة؛ الأول يكمن في الحد من التضخم وارتفاع الأسعار، والثاني في التحكم في أسعار الفائدة لتقليل تأثيراتها على النمو لتجنب الركود الاقتصادي المتوقع.
وبالنسبة للجانب الأول الخاص بالتضخم، فإن أهم أسبابه تكمن في الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة مع بدء الحرب الأوكرانية الروسية، حيث تضاعف سعر غالون البنزين في الغرب ليصل إلى 5.5 دولار، إلا أنه انخفض بنسبة تراوحت بين 17 و20% إلى 4.5 دولار في الأسابيع القليلة الماضية، وهو سبب رئيسي لانخفاض التضخم. إلا أن أسعار العديد من السلع الرئيسية، وبالأخص السلع الغذائية، واصلت ارتفاعاتها خلال نفس الفترة، حيث ارتفعت في يناير الماضي بنسبة 14%، كما ارتفعت أسعار السلع المصنعة بنسبة 7%، وهو ما لم يؤد إلى انعكاس انخفاض التضخم بصورة محسوسة على حياة المستهلكين، حيث يتوقع أن تستمر الأسعار في الارتفاع خلال الفترة القادمة.
وفي هذا الجانب، فإن العامل الرئيسي الخاص بانخفاض التضخم، وهو أسعار الطاقة، غير مستقر؛ كونه يرتبط بعوامل خارجية تتعلق بأوضاع الاقتصاد العالمي ككل وبعوامل جيوسياسية تزداد تأزماً، إذ بدأ في الخامس من هذا الشهر سريان القرار الأوروبي الخاص بحظر واردات المنتجات النفطية الروسية، والذي لم تتضح معالمة بعد، وقد يؤدي إلى نقص في المعروض، وبالتالي ارتفاع أسعار هذه المنتجات من جديد، كما أن عودة الطلب بقوة في الصين قد يغير بعض الحسابات ويرفع الأسعار، مما سيؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ويعقبه ارتفاع أسعار بقية السلع.
وفي هذه الحالة سوف تضطر البنوك المركزية للعودة لرفع أسعار الفائدة، وهو ما يرتبط بالجانب الآخر الخاص بتأثير ذلك على تراجع الأنشطة الاقتصادية وإمكانية تعرض الاقتصادات الغربية للركود رغم محاولتها تفاديه بأي وجه من الوجوه، وهو ما يذكرنا بالمثل الخليجي القائل: «آه من بطني.. آه من ظهري».
والآن باختصار، ماذا بشأن هذين العاملين على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي؟ بالنسبة للعامل الأول الخاص بالتضخم، فإن أسعار الطاقة ظلت دون تغيير تقريباً في دول المجلس، وهو ما لعب دوراً حاسماً في الحد من التضخم وارتفاع الأسعار، التي شملت أساساً أسعار السلع الاستهلاكية والمصنعة، كما أن ارتفاع سعر صرف الدولار الذي ترتبط به العملات الخليجية تجاه العملات الرئيسية الأخرى حدَّ بدوره من ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وهو عامل مهم آخر للجم التضخمَ والذي تبلغ نسبته بدول المجلس نصف معدله في دول الاتحاد الأوروبي. أما فيما يتعلق باحتمال الركود المرتبط بأسعار الفائدة، فإن هذا العامل ستكون له تأثيرات محدودة ولن يقود إلى ركود بالاقتصادات الخليجية، غير أن الركود في الاقتصادات الرئيسية في حالة حدوثه ستكون له تداعيات على الاقتصادات الخليجية، خصوصاً أنه سيؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط، وبالتالي انخفاض أسعار النفط ومشتقاته، حيث سيأخذ الركود في هذه الحالة شكلاً عالمياً شاملاً، وهو ما يتطلب أخذَه بعين الاعتبار.