الانسان مُبْتَلى والانسان يَبْتَلِي، منه البلاء وعليه البلاء، ويقال: «إن شر البلية ما يضحك»، ولكن الضحك اذا استمر وتمادى الى ذروة القهقهة فإنه يؤول الى البكاء، ومنه نستنبط مثلاً مكملاً «أن أشَرَّ البلية ما يبكي»، ومع البكاء يعبر الضعف عن عجزه برسم كلمة او خط ريشة او همسة صرخة، بينما العقل مرتبك محتار يتحسس ردهات «ما العمل؟!!!». من بين تعبيرات البكاء وحيرة العقل لفت نظري خط ريشة للوحة كريكتورية للفنان الروسي - الاوكراني يولي غانف رسمها عام 1953، يعبر فيها وبها عن موقع بلاء القوة في واقع العلاقة، وهي علاقة حتمية بحلوها ومرها، بين فئات المجتمع، وكيف أن نصيب الاسد من ثروة المجتمع او الدولة، بمعنى أدق، يكون من نصيب الاقوى الذي يحمل راية الحرب وبيده السيف الذي يرتاب ويرتعب منه بقية فئات المجتمع، وينطبق الامر كذلك على المجتمع الدولي وأية دولة فيها هي الاقوى. لوحة بريشة رمزية لكن الصورة العاكسة منها أوضح من نور الشمس في عز النهار، إذ لا تخطئ عين ما تراه من معنى في اللوحة وما الذي يرمي اليه الفنان دون حاجة الى تفسير او فك خطوط الرمز، إذ أن خطوط الرمز سلمها الفنان بمحض إرادته وبهدف نيته الى العيون الناظرة والعقول المتلهفة.. الرمز الواضح الجلي هو اختيار مطعم ليكون ساحة التعبير عن موقع القوة، والرمز يسقط على المجتمع والدولة والعالم برمته.

اللوحة تبين مطعمًا أطباقهُ من المال، وكيف يتم تقديم الاطباق الى الزبائن فيه، والذي يقتضي توزيع وجبات المال حسب طلبات الزبائن. داخل المطعم تتوزع فيه طاولات مستطيلة الشكل للزبائن حسب طبيعة الوظيفة! أجسامهم هزيلة ووجوههم مكفهرة.. طاولة عليها طبيب، وطاولة يجلس على كرسيها تلميذ، وأخرى لِعَالِمٍ، وطاولة لفنان، وفي زاوية أسفل اللوحة رسم لجزء من طاولة غير معنونة تمتد فيها يدان تحملان طبقًا فارغًا، والطاولات متواضعة ينتظر من عليها خدمة تقديم الطعام، وهو المال المطلوب الذي يحتاجه كل زبون كي يلبي به حاجاته المعيشية، وهذا من طبيعة المهمات وضرورات دوام الوجود واستمرار الارتقاء.. بينما طاولة مختلفة مميزة مستديرة الشكل يجلس على كرسيها رجل محارب ضخم الجثة مرعب الهيئة توحي برهبة عسكرية رغم إخفاء وجهه عن الانظار، وعلى ظهر الدرع الذي يلبسه رسم لكلمة «حرب»، ويمتطي سيفًا يتقطر الدم من نصله، وجميع الانظار مصوبة في اتجاه طاولة «حرب».. الطاولات الاخرى مرسوم عليها كلمات «الرعاية الصحية» و«التعليم» و«العِلْم» و«الفن»، أما الطاولة غير المعنوية فهي رمز للاغلبية الباقية من الايادي الممدودة. خدمة تقديم الاطباق المحملة بالمال يحوم بها أربعة من رجال المطعم حول طاولة «حرب»، وملامح وجوههم بين لا مبالٍ ومحرج ومضيافٍ سعيد، بينما المحارب منكس الرأس مخفي الوجه، بثقة القادر، لا يبالي بمن حوله من خدم وزبائن ولا حتى المكان، إذ أنه منهمك بتناول وجبته الغنية بما لذَّ وطاب من صنوف أوراق المال..

بقية الزبائن حول الطاولات المستطيلة الاخرى لا أحد من رجال المطعم يلتفت اليهم، بل هم ينتظرون وبيد كل منهم صحن فارغ، وطول الصبر يعصر بطونهم ويذل نفوسهم ويهين كرامتهم، ووجوههم تنطق بغضب مكنون عاجز عن الانفلات من قبضات النفس العليمة بعواقب الامور. هذه هي الصورة النمطية السائدة في جميع المجتمعات البشرية ورغم بعض التفاوت النسبي بين مجتمع وآخر، ولكن الصورة في جوهرها واحدة لم تتغير خلال الثلاثة عصور التي استنبطها عالم الأنثروبولوجيا الامريكي لويس مورغن في كتابه «المجتمعات القديمة» في القرن التاسع عشر، والتي يصنفها بدءًا بالهمجية مرورًا بالبربرية ومن ثم وصولاً الى التحضر، الذي هو عصرنا الحالي، والذي يعني أن التغييرات من عصر الى آخر ليست أكثر من تغييرات في قشور العلاقة بين الانسان والانسان، وإن هذه العلاقة ما زالت في انتظار النقلة النوعية من النمط الحضاري الفطري السائد، الى اليوم، الى النمط الحضاري العقلي الذي يفرق بين قانون الحضارة الانسانية وقانون الغاب، أي بين قانون العقل وقانون الفطرة. يستحيل لهذه النقلة النوعية أن تتحقق دون أن تكشف تلك القلة صاحبة القوة عن وجهها امام الغالبية الاضعف والضعيفة، حتى تتكشف للقوة الحقيقة المرة، وهو البلاء، من سطوة القوة.. وبلغة اللوحة الرمزية، حتى يُرْفَعُ البلاء، ما على القوة إلّا أن ترفع رأسها لترى الصحون الفارغة والاجسام الهزيلة والوجوه المكفهرة!!! قبل أن يأتي يوم تتعفن فيه القوة وهي مهروسة تحت أنقاض الاستفراد بالثروة وبالجاه وبالمال!!! والتاريخ ما زال يكرر قصته على نفس المنوال!!!