تتجه العلاقات بين واشنطن وموسكو لمزيد من التوتر والتجاذب خاصة بعد حادثة إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة في البحر الأسود، وتأكيد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أن الولايات المتحدة ستواصل القيام برحلات استطلاعية في المنطقة، واستمرار الطيران والعمل حيثما يسمح القانون الدولي، فيما طالبت موسكو الولايات المتحدة الابتعاد عن مجالها الجوي في أول مواجهة مباشرة معلنة بين القوتين منذ بداية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وهذا ما يؤكد أننا أمام توتر جديد سيحكمه موقف البلدين ليس تجاه أوكرانيا فقط، وإنما سيمتد إلى ملفات أخرى في إطار الثنائي والمتعدد الأطراف. فالطائرة الأميركية وفقا للطرح الأميركي، وهي من طراز (إم كيو - 9 ريبر)، لم تكن مسلحة، وكانت تحلق في المجال الجوي الدولي في مهمة مراقبة روتينية، حيث تكثر السفن الحربية والغواصات الروسية في البحر الأسود. وفي المقابل نفت روسيا أن تكون طائرتها قد أصابت الطائرة المسيرة، وطالبت بإنهاء الرحلات الجوية العسكرية الأميركية بالقرب من أراضيها، والسؤال المطروح بقوة هل سيؤدي وقوع مثل هذه العمليات، وغيرها إلى توسيع نطاق الصراع لجر دول أخرى خاصة مع اعتراض سلاح الجو البريطاني، وسلاح الجو الألماني طائرة روسية تحلق بالقرب من المجال الجوي الإستوني، في أول مهمة لهما في إطار مهام الشرطة الجوية التابعة لحلف شمال الأطلسي.
في هذه الأثناء تستعد بريطانيا لتتولى من ألمانيا رئاسة مهمة «الناتو» في إستونيا بحدودها المباشرة مع روسيا، ومن ثم فإن متغيرات جديدة ستفرض نفسها، وستؤدي إلى تبعات عدة خاصة بعد أن أرسلت ألمانيا دبابات «ليوبارد 2 » إلى أوكرانيا في أعقاب خطوات موازية من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، بينما أصر الرئيس الفرنسي ماكرون على ضرورة أن يشمل أي قرار لما بعد التوصل لترتيبات أمنية اعترافاً بالمخاوف الأمنية تجاه روسيا. وظلت الانتقادات تُوجه لفرنسا وألمانيا لعدم مساندتهما أوكرانيا بصورة واضحة، ما يقلل من مصداقيتهما في منظور قادة دول شرق أوروبا، الأمر الذي يدفعها للاعتماد على واشنطن لتبديد مخاوفها الأمنية، كما أن دول مثل بولندا ودول البلطيق تفضل أن يكون هناك ضمانات أميركية حقيقية.
في هذا الإطار من المتوقع أن تعمل روسيا انطلاقاً من أن الولايات المتحدة لا تزال الخصم في إطار سياسات روسية منضبطة تجاه «الناتو»، وأن أية سياسات تصعيدية ستواجه بمزيد من التشدد بدليل تركيز روسيا على مطلب محدد معلن يتركز في أنه من أجل تهدئة الوضع الراهن، يتعين على واشنطن اتخاذ خطوات نحو سحب قواتها وعتادها التابع لحلف «الناتو»، ووقف أنشطتها المعادية لروسيا بل وإعادة التفاوض حول فكرة إنشاء نظام أمني عادل في أوروبا، يكون لأوكرانيا فيه وضع محايد مؤكد، وهي فكرة تم رفضها من قبل، وكذلك تلك التي طرحتها روسيا في مجال إنشاء مساحة أمنية أوروبية مشتركة منذ عام 2002، عندما تم إنشاء «مجلس روسيا والناتو».
وتعمل الولايات المتحدة على تعميق المواجهة مع روسيا في جميع المسارات الراهنة، والتي سيأتي بنتائج عكسية قد تدفع روسيا للتعامل غير المنضبط، وقد تقع المواجهة بالخطأ بدليل أن البحر الأسود يحدّ أيضاً دولاً أعضاء بـ«الناتو»؛ من بينها تركيا ورومانيا، وهذا هو السبب في عمل الطائرات المسيَّرة الأميركية هناك على أساس قانوني، كما أن روسيا تسعى جاهدة منذ شهور للسيطرة على «باخموت»، مع استمرار تعرض بلدات، وبنى تحتية في منطقة بيلغورود بانتظام لضربات تنسبها موسكو إلى الجيش الأوكراني، من دون أن تعلن كييف مسؤوليتها عنها، وهو ما يؤكد أن المواجهة مستمرة، ولن تتوقف في ظل هدف محدد يقوم على ضبط المستوى النوعي للأسلحة الغربية التي تقدمها الولايات المتحدة ودول «الناتو» لأوكرانيا، أو عبر محاولة تفادي أي تدخل مباشر على المستوى العملياتي، وعلى أرض الواقع وفي الجبهات الأوكرانية المختلفة مع التحسب لتحول الصراع الثنائي لصراع متعدد الأطراف قد يكون له تداعيات دولية محتملة بسبب وضع القوة النووية لكل من الولايات المتحدة وروسيا في المقام الأول.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية