هل لبنان شعب واحد موحد؟ سؤال يقتضي واقع الحال الرد عليه بصيغة نفي لا يمكن إلا أن تترك في كل نفس وطنية، شعوراً من الحزن والأسى، ذلك لأنه لم يحدث أن مر زمن على اللبنانيين، كانوا فيه شعباً واحداً موحداً. كانوا طوائف وقبائل، تتنافر أحيانا، وأحياناً تتصالح، وكان تصالحهم يتم بعقود اجتماعية، لا تلبث أن تنفرط كلما ألمت بحياتهم مصيبة، فيذهب كل فريق في طريقه، ويتفرقون شيعاً ومذاهب، حتى صار من المتعذر، أن يقال عنهم إنهم "شعب واحد"، بالرغم من أنه يتشاركون في كثير من الأمور. لن نذهب في البحث التاريخي لنتبين كيف كانت هوية الطوائف اللبنانية زمن العثمانيين، وفي السنوات الأولى بعد مجيء الفرنسيين، هذا بحث يفتح باباً من الحوار يصعب إغلاقه، أو الوصول من خلاله، إلى نتيجة ترضي جميع الفرقاء من أصحاب الفكر القومي، ورجال الدين، والمؤرخين والناظرين في علم السلالات. نكتفي بالنظر في لبنان وشعبه، من يوم قامت دولة لبنان الكبير على يد فرنسا، الدولة المنتدبة عليه وعلى سوريا. لكن لا بد قبل أخذ النظر بعيداً في وضع لبنان كوطن ومواطنين، الإشارة إلى أمر هام يطمئن اللبنانيين، ويجنًّبهم الخوف من المستقبل، وهو أن لبنانهم، ليس البلد الوحيد في الشرق الأدنى والعالم، الذي يعاني الفروقات. هناك دول كثيرة في القارات الخمس، ومنها التي في أوروبا، فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا مثلا، تختزن روحها فروقات دينية ولغوية وعرقية وثقافية أكثر تعقيداً مما في الروح اللبنانية بكثير، مع ذلك تراها مستقرة، وترى المواطن فيها "مكتمل الفردية "، يفتخر بوطنيته أو قوميته، لا يعبث بها، ولا يساوم عليها، ولا يتاجر بها أو يبيعها للغريب! الفارق بين هذه الدول وبين لبنان، أن تلك الدول هي دول وأوطان، في حين أن لبنان بالنسبة إلى أهله وطن يحبونه، لكنه لم يصل بعد إلى مرتبة الدولة الجدية المهابة، التي تحمي المواطن وتصون حاضره ومستقبله، ويكون ولاؤه لها، لا للأحزاب والطوائف، وهذأ هو موضع الضعف الأساس، الذي يمنع التجانس بين اللبنانيين.

ولد لبنان في العام 1920، وفي العام 1943 نال استقلاله، فإذا "الوطنيون" من حكامه، أهانوا الدولة وعبثوا بالاستقلال، وحين خرجت منه يوم 17 تشرين 2019، أصوات شابَة نيَرة، تنشد التغيير وتدعو إليه، واجهها أعيان النظام بالسلاح والاتهامات وأسكتوها. مهما يكن، اللبنانيون على اختلاف طبقاتهم يتوقون إلى العيش في دولة ذات سيادة، لكن غياب هذه الدولة من حياتهم، حال دون تحقيق هذه الأمنية الغالية على قلوبهم، وحين تغيب الدولة، يتلاشى الشعور الوطني، ويتحول الولاء للطائفة ولزعيم الطائفة، وما نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا الدليل القاطع على التبعية المؤلمة المتحكمة بضمائر اللبنانيين، فقد أعادت الخراف الضالة رعيانها إلى كراسي الحكم، رغم أن سياسة هؤلاء الرعيان، أفقرتهم وحولت بلدهم إلى واحد من أسوأ البلدان في العالم. هل يعني ذلك أن المواطن اللبناني مصاب بمرض الانفصام؟ يحتاج الرد على هذا السؤال، إلى دراسة دقيقة متأنية، تأخذ في الحسبان علم النفس وعلم الاجتماع وتاريخ الأديان، وأثر ذلك كله في الشخصية اللبنانية. إذ كيف يُعقل، أن يعيد مواطنون، انتخاب زعماء أوصلوهم إلى الحضيض، وفي العالم الواسع شعوب كثيرة، تحاسب حكامها على كل صغيرة وكبيرة، تسقطهم في الانتخابات والاستفتاءات متى اقتضت الحاجات، حتى لو كانوا قد حققوا لهم ولبلدانهم الأمجاد والانتصارات. نذكر ديغول الذي رفض الشعب الفرنسي برنامج الاصلاحات الذي تقدم به، في استفتاء العام 1968، فجاءت النتائج عكس ما أمل جنرال الاستقلال، فترك الحكم والعاصمة، وأمضى بقية حياته في بلدة نائية ريفية في فرنسا. نذكر أيضاً، ونستون تشرشل، وكيف اسقطه شعبه في انتخابات ما بعد الحرب، سنة 1945. الأمثلة على ذلك كثيرة وفي كثير من البلدان، حتى في إسرائيل العدوة، والتي تليق بها كل أشكال النقد، استقال رئيس وزرائها إسحق رابين عام 1977، بسبب حساب مصرفي مسجل باسمه واسم زوجته، في أحد مصارف العاصمة الأميركية واشنطن، علما أنه كان بنظر الإسرائيليين "ملك إسرائيل". أما في لبنان، فالحال مختلفة، ومختلفة جداً ويا للأسف والسؤال حياله، وحيال بنيه يبقى مطروحاً: ما الذي يجعل اللبنانيين يعيدون إلى الحكم، زعماء فاسدين فاشلين؟ هل هذا ضرب من الجنون، وإذا كان جنوناً، فما أسبابه؟

نظرة دقيقة في هذه الظاهرة اللبنانية الغريبة، تظهر علَتين في عقل المواطن اللبناني ووجدانه؛ علة مرضية في اللاوعي (Deep Subconscious illness) وعلة أصلها ديني وهي "عبادة الشخصية" (Personality Cult). الأولى ينمو مفعولها ويتراكم، من يوم دخول المواطن طفلاً في مدرسة، إلى حين تأخذه المنيّة. هذه العلة تعيق فردية المواطن، فلا تصير "كاملة" كما هي عند مواطن أوروبي مثلاً، يرى السياسي في بلده يخطئ، فيثور عليه ويطالبه بالاستقالة، بخلاف الحال في دول كثيرة من العالم الثالث، يفسد الحاكم فيها وينهب ويقتل ويبقى في الحكم، ولبنان نموذج عن هذه الدول، فهو لا يزال تحت حكم زعماء ملطخة أياديهم بدماء الناس، ويبقى زعيماً محمياً من الجهلاء ومن نظام طائفي وقبلي، حتى لو ارتكب الفساد والموبقات والمجازر! يقودنا هذا الفهم إلى العلة الثانية، "عبادة الشخصية"، وهذه تبقي المواطن متصلاً بزعيمه، رابطا مصيره بمصيره، حتى لو بلغ الحرمان به حد الجوع. بوجود هاتين العلتين، يصبح من المستحيل أن يصل شعب إلى الحرية، وبسببهما دخلت الفرق اللبنانية في تجارب صعبة، وفي حرب أهلية طاحنة. هاتان العّلتان تفقدان المواطن إرادته الحرة، فيصبح كما النعجة أمام جزّارها. وما يدعم هاتين العلتين أحزاب لبنان تظهر هذه الحقيقة المرة في أجلى صورة. "حزب الله" مثلاً، مناصروه والمنتمون إليه من "الشيعة"، والمنتمون إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي" من "الدروز"، وأنصار "حزب القوات اللبنانية"، معظمهم "موارنة"، وأنصار حزب "التيار الوطني الحر" كلهم، أو معظمهم "موارنة"، وحركة أمل، معظم أنصارها والمنتمين إليها من "الشيعة" اما أتباع "تيار المستقبل"، فغالبيتهم من "السُنة".

اعتذر عن إطلاق هذه التصنيفات مثل "درزي" و" شيعي" و"ماروني" وما شابه، أضعها بين "علامات الازدواج"، لأنها فارغة المعنى من الوجهة الروحية، ولأنها قائمة على الكذب والنفاق، ولأنها فوق ذلك كله، تصنيفات تقسيمية عنصرية تأنف من ذكرها كل نفس وطنية حرة، إذ ليس كل مواطن مسجل في القيد الطائفي على أنه "مسلم"، هو مسلم حقاً، وليس كل من هو "مسيحي" في القيد هو مسيحي حقاً. هذا يعني أن الأحزاب اللبنانية كلها أحزاب طائفية وليست أحزاباً وطنية، ويستحيل أن تكون وطنية، هي تقسيمية وجائرة، وضد الوطن والمواطن. هذا النفاق في بنية هذه الأحزاب يتعدى الوجهة الدينية، إلى الوجهة السياسية أيضاَ، فأسماء الأحزاب وشعاراتها قائمة أيضا على الخداع والنفاق. كيف يكون حزب مثل "الحزب التقدمي الاشتراكي" اشتراكيا ووطنياً، وغالبية المنتمين إليه من "الدروز"، ورئيسه، وبعض كبار أعضائه من أصحاب الملايين؟! كيف يكون حزب "القوات اللبنانية" حزب دولة، واسمه "حزب القوات"؟ إن الاسم بحد ذاته ذو دلالة حربية، ويناقض مفهوم الدولة المدنية المركزية التي تتظاهر قيادة هذا الحزب بالدعوة إليها. الأمر ذاته ينطبق على "التيار الوطني الحر". كيف يكون هذا الحزب "وطنيا وحراً"، ومعظم المنتمين إليه "موارنة"، أو "مسيحيين"؟ الشي نفسه ينطبق على "تيار المستقبل"، ومعظم أنصاره من "السنة"، وعلى حركة "أمل" التي معظم أنصارها والمنتمين إليها من "الشيعة". أما "حزب الله" فشأن آخر. كيف يمكن أن يكون هذا الحزب وطنياً، والمنتمون إليه كلهم "شيعة"، وكيف تكون المقاومة وطنية، إذا كانت "إسلامية"؟! الإسلام، والأديان عامة، لا تعترف بالأوطان، بل تتوجه إلى الأمم، وليس في القرآن والأناجيل و"أعمال الرسل" ذكر لكلمة "وطن"، وليس في العالم العربي كله، رجل دين مسلم تجري على لسانه كلمة "وطن". الرسالة في الإسلام هي للعالم كله، وليست لشعب محدد في أرض محددة، كذلك هي المسيحية. لقد صح في الإنجيل قول "المسيح" إنه جاء إلى خراف إسرائيل الضالة، لكن "نبي الجليل" خرج من المأثور القديم، حين ردَد أمام اتباعه غير مرة وقال: "قد قيل لكم كذا وكذا، أما أنا فأقول لكم"، وفي مكان آخر أتمَ رسالته العالمية، مخلطباً تلاميذه بالقول:" اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم".

إذا كان النفاق في الدين، هو بنية هذه الأحزاب اللبنانية، فلا يصح من الوجهة الدينية أو الإيمانية القول عندئذ، إن المنتمين إلى هذه الأحزاب هم "طوائف، بل قبائل. حين يُعيد المواطن اللبناني زعيما فاشلاً إلى الحكم، فمعنى ذلك أنه يمارس عملاً ضد نفسه وضد وطنه. كذلك زعيم الطائفة، هو الآخر، ومن دون أن يدري، يعمل ضد نفسه وضد شعبه وضد وطنه، وفي هذه الحال الجميع خاسر، والجميع يرتكب فعل الخيانة، وما الفوائد التي يجنيها الزعيم الفاسد، ومن يدور في فلكه من الزبانية والأجراء، إلا فوائد آنية مآل أصحابها الندم في آخر المطاف. مثلهم في ذلك مثل صغار السمك تلتهمها السمكة الكبيرة، أو لقمة سائغة بيد من هو أقوى منهم جميعا، ومن هو أقوى منهم جميعاً، غير عدوهم التاريخي إسرائيل، القبيلة العبرانية المهيأة لتحكم القبائل التي من حولها، لأنها أقوى القبائل وأغناها وأشدها خبثا وذكاء، وأكثرها ارتباطاً بدول ما يسمى بالعالم الحر، هذا العالم الذي لا يرى في بعض الأحيان أبعد من أنفه، ولا تهمه إلا مصالحه قبل أي شيء آخر. يظن بعض اللبنانيين، من يطالبون هذه الأيام بالفيديرالية أنهم "واقعيون"، يفعلون ذلك لأنهم يريدون العيش في مجتمع سلم لا مجتمع حرب، ورسالتهم موجهة إلى "حزب الله" خاصة، كأنهم يقولون لهذا الحزب ما معناه: عش وسلاحك حيث تكون، ونحن نعيش حيث نكون! يرتكب "حزب الله" الخطأ الجسيم حين لا يراعي خصوصية المجموعات اللبنانية، أو حين يخيفها بسلاحه. في مناخ كهذا يثير "حزب الله"، مثله مثل أي حزب ديني، عصبيات الآخرين، فيشتد ساعد الزعيم الفاسد على الطرف الآخر، وتطفو على السطوح دعاوى "الفيديرالية"، علماً أن الداعين لها، يعملون، من حيث لا يدرون، ضد أنفسهم وضد بلدهم. يجهلون حقيقة لبنان وتاريخه، دروس التاريخ التي تنبئنا بأن القبيلة تنقسم على ذاتها في النهاية، ولا يعود لها وجود، كما حدث لكثير من القبائل والفيدراليات عبر التاريخ، أو تذوب في اتحادات قومية، كما حصل في إيطاليا وألمانيا وغيرهما من الدول. لبنان القبائل المتنازعة، أو المنقسم على نفسه فيدراليا، هو سمن وعسل على قلب إسرائيل، القبيلة العبرانية، لأنه يؤهلها للسيطرة عليه، فتصبح هي زعيمة القبائل وكبرى القبائل، "قريش الشرق الأوسط" أو "قريش الهلال الخصيب"، تلجا إليها كل قبيلة لبنانية مستضعفة، لتحميها من القبائل المعادية الأخرى. هذا كان ولا يزال حلم الصهاينة منذ مؤتمر بال في العالم 1897. ومنذ أن وضع ثيودور هرتزل كتابه "الدولة اليهودية"، والصهاينة يسعون لتكون إسرائيل القبيلة السيدة بين قبائل المنطقة. هذا ما كان يتطلع إليه المؤرخ اليهودي برنارد لويس، وفي اعتقاده أن العرب غير مؤهلين لبناء الدول، لأن ليس لهم في تاريخهم إلا ولاءين: للدين أو للقبيلة! منذ عقود غابرة، والصهاينة يخططون بخبث وذكاء، فيما العرب نيام، واللبنانيون منقسمون على أنفسهم، تفرقهم المخاوف، ويمزقهم تعدد الولاءات، سائرون خلف زعمائهم ورجال أديانهم بعماء، ساهون عن يوم يطلع الفجر فيه، وتكون القبيلة العبرانية قد استجمعت قواها وسيطرت عليهم جميعاً! هل تدَبر "المسلمون" الآية القرآنية التي تقول "والعاديات ضبحاً فالموريات قدحاً فالمغيرات صبحا"؟ إنها في القرآن عن الخيل في الصحاري، إما عند القبيلة العبرانية، فهي الخطة المرسومة دائما ضد أعدائها!

كل ما يفعله اللبنانيون، سياسيين ومواطنين ورؤساء أحزاب ورجال دين، خيانة للبنان الدولة والوطن، ولمصلحة عدو لبنان التاريخي إسرائيل، وهذه لا تزال تحتل أرضاَ لبنانية، وطيرانها يعبث بسماء لبنان، والفلسطينيون لاجئون فيه، محرومون من دولة فوق أرضهم التاريخية، هذا فضلا عن أن بنيان هذه الدولة العبرية قد قام أصلاً على الإكراه وسلب أرض شعب بريء، تحت شعارات تتناقض وحقائق التاريخ، وتقوم على أساطير وخرافات دينية لا أساس لها. جود هذه الدولة يناقض وجود لبنان، ووجود لبنان يناقض وجودها، لذلك يتعين على لبنان أن لا يعترف بها حتى لو اعترف العالم كله بها. في النهاية يبقى السؤال: هل بمقدور لبنان أن يحمي نفسه من إسرائيل؟

قد تستغرب أيها القارئ الكريم هذا السؤال، وقد تتساءل بينك وبين نفسك: ما هذه السذاجة وما هذا الهراء؟ هل يُعقل أن لبنان الصغير الذي على شك أن ينهار نظامه السياسي، كما انهار نظامه المصرفي، ووصل إلى حد الإفلاس، وتتحكم به عصابات سياسية وأخرى طائفية، ويعاني شعبه الويلات وتعدد الولاءات، أن يصمد أمام عدو قوي غني ذكي وخبيث مثل إسرائيل، في ترسانته أسلحة رهيبة ومدعوم من معظم دول العالم الحر؟ إذا اتفق وراودك هذا التساؤل أيها القارئ الكريم، فجوابي عليه بعبارة صريحة واضحة لا لبس فيها: نعم، بمقدور لبنان أن يحمي نفسه من إسرائيل. لا تدفعني إلى هذا القول أحلام وتمنيات وهمية، بل ثقة لا تشوبها شائبة، بإن لبنان، هو البلد الوحيد في المنطقة العربية المؤهل أكثر من غيره للقيام بهذا الدور. لا تذهب في الظن بعيدا أيها القارئ الكريم وتحسبني أستلهم ثقافة عروبة أو قومية واهية، أو أنني من أنصار ما يسمى بمحور الممانعة، وتيار 8 آذار. لست مع هذا المحور أو هذا التيار في شيء، ولست مع التيار الآخر الذي عنوانه 14 آذار. كلامي نابع من إيمان لا يتزعزع بقدرة لبنان على مقارعة إسرائيل في المحافل الدولية، أولا لأنه على حق، وثانيا لأنه ساعة يكون دولة محترمة جدية تقودها عقول ذكية قوية ومخلصة، يستطيع عندئذ أن يحمي نفسه، أما بقاؤه كما هو الآن؛ أحزاب وطوائف وقبائل متنازعة، فخيانة للوطن وضرب للروح الوطنية التي هي أساس كل بلد، وقد شهدنا منذ "الاستقلال" الموهوم إلى اليوم، كيف تراجع لبنان عقدا بعد عقد، وعاماً بعد عام.
حتى يقوم لبنان بهذا الدور، هناك حل واحد أمام اللبنانيين لا حل غيره، هو أن يقيموا دولتهم المدنية العلمانية، لأن في هذه الدولة وحدها تكون وحدتهم وتتكّون، وفيها يعلو الإيمان على التدين، وهي الصيغة الوحيدة التي تنسجم مع الأديان متى كانت هذه الأديان فعل إيمان، لا طقوساً جامدة تفرق بين الناس، ومادة يستغلها الحاكم الفاسد ورجل الدين الفاسد، في أبشع الصور وأشدها قذارة! حين يكون لبنان هذه الدولة المحترمة، ويكون نظامه السياسي منسجماً مع القوانين والشرائع العالمية، ومماثلاً لنظم الدول الراقية، سيصعب على أي دولة قريبة أو بعيدة أن تناله بسوء. يكفي وحدة شعبه أن تكون الضمانة الوحيدة لتجّنبه الكوارث، وإعطائه المناعة الكافية ضد الأخطار. أعطي مثلا على ذلك: لو قررت دولة قوية عظيمة مثل فرنسا أن تعتدي على دوقية صغيرة مثل "لوكسمبرج" وتضمها إليها، كيف ستكون ردأت الفعل العالمية؟ لا شك في أن العالم كله، والشعب الفرنسي كله، سيقف ضد فرنسا، لسبب بسيط، وهو أن نظام هذه الدوقية راق ويماثل أنظمة الدول الراقية، كذلك الأمر إذا اعتدت دولة جبارة مثل الولايات المتحدة على كندا، فإن العالم كله، والشعب الأميركي كله، سيقفون إلى جانب كنداً، لأن النظام في كندا مقبول عالميا ومماثل لنظام أي دولة راقية. في المقابل، يسهل على دولة مثل فرنسا أن تعتدي على بلد مثل ليبيا، يحكمها دكتاتور مثل معمر القذافي، ولا يرف جفن أحد في العالم، ويسهل على دولة مثل الولايات المتحدة، أن تجيَش جيوشاً مختلفة، وتغزو بلداً مثل العراق، يحكمه دكتاتور مثل صدام حسين، ولا يرف جفن أحد في العالم. الحال ذاتها بين لبنان وإسرائيل. كم من المرات اعتدت إسرائيل على لبنان، وكم من المرات حلق طيرانها في سمائه، وما رف جفن أحد، هذا مع العلم ان إسرائيل دولة معتدية، لكن الصهاينة أذكياء وخبثاء وشطَار، يعرفون كيف يسوَّقون قضيتهم، ويظهرون للعالم بأنهم "واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وأن اعتداءهم على لبنان وعلى الفلسطينيين، هو دفاع عن أنفسهم، وضد بلاد أنظمتها بالية وحكامها فاسدون! مهما يكن الأمر، علينا أن نلوم أنفسنا أولاً قبل أن نلوم الآخر، مهما كانت جنسية هذا الآخر وكانت نياته وجرائمه، لأن بقاءنا أنظمة سياسية بالية عفت عليها الأزمان، وتمجيدنا "زعماء" لا يستحقون المناصب التي هم فيها، ولا تليق بهم إلا مزابل التاريخ، معناه أننا نحلل أنفسنا للذبح، قبل أن يحللها الآخرون!

لبنان بلد جميل، ومن أجمل بقاع الأرض، واللبناني خلَاق بطبعه، بانِ ومبدع في حقول مختلفة. ثقافته الفريدة، وعلاقته القديمة مع الشرق والغرب، أضفت على روحه سمة الاعتدال، وجعلته محباً ومحبوباً، لا يضمر الكراهية لأي شعب، ولا حتى لليهود، ولا لأي دولة باستثناء "إسرائيل الصهيونية". هو محب بنوع خاص، لسوريا الشقيقة، خصوصاً إذا سالمته ورعت علاقة الأخوة التاريخية بينها وبينه، وهو بلد ثري، وما ضعفه الحالي إلا نتيجة سياسة رعناء، وحكم زعماء فاسدين أفقروه وحولوه إلى مستجدِ على أبواب الدول والمؤسسات المالية العالمية. لبنان بغنى عن ذلك كله، هو غني بأرضه المعطاء، بطبيعته الخلابة، وبثروات أبنائه المنتشرين في العالم الواسع، وكل الذي يحتاجه أبناؤه ليحققوا هذه الأمنيات الغاليات، دولة جدّية محترمة، يكون ولاؤهم لها، لا لغيرها، وبها يخرجون من التقوقع وثقافة القنفذ (Hedgehog Mentality) إلى رحاب الحياة الحرة الكريمة. حين يتحرر المواطن اللبناني من "علة اللاوعي" التي تنامت في وجدانه، عبر سنوات طويلة من القهر والذل والحروب، وتحكّم رجال السياسة والدين في حياته، ومن علة "عبادة الشخصية"، يكون قد وضع نفسه على الطريق المستقيم، وهذه الطريق التي توجد المجتمع المتجانس، والوطن السيد الحر المستقل، لا يمكن أن تتوافر إلا في ظلال دولة مدنية علمانية، والذين يظنون أن هناك حلاً آخر واهمون! قد يُعيد أهل النظام تركيب دولة على مثالهم، توفر للشعب شيئا من الأمن والازدهار، لكن هذا كله سيكون موقتاً، وأشبه بذر الرماد في العيون، وعاجلا أم آجلاً، سوف يهتز بنيان هذه الدولة أمام أي حدث خطير، وتسقط "فيديرالياتها" كما يتساقط ورق الشجر أمام الريح العاتية. أمام لبنان وشعبه تحدِ خطير، والوقت ضيق، فإما أن يسلكوا طريق الدولة المدنية العلمانية الحرة، أو يسقطوا مجدداً في عباءة الجاهلية، أسرى بيد قبائل تحكمها وتتحكم بها القبيلة العبرانية. عندها ينهار الوطن المحبّب الذي عرفناه وأحببناه، يفقد هويته ويذوب في مستنقع القبائل، فتعلو نجمة داود على أنقاضه، وينزل "رب صهيون" من عليائه، لينجز الآية الرقم(5:29) من سِفر المزامير: "صوتُ الربِ مُكسرُ الأرز ويكسِرُ الربُ أرزً لبنان"!