على ضوء المظاهرات التي تعم فرنسا هذه الأيام، ظهر الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي، وهو يطالب الفرنسيين بالتضحية من أجل الأجيال المقبلة. في منتصف المقابلة، أخفى ماكرون يده أسفل الطاولة، وقام بنزع ساعته في مشهد تداولته وسائل الإعلام. كان التعليق على هذا المشهد أن (ماكرون) الذي يطالب الشعب بالتضحية، يلبس ساعة ثمينة، قيّمتها بعض المواقع بنحو 80 ألف يورو، إلا أن التقصّيات أوضحت أن الساعة لا يزيد ثمنها على ثلاثة آلاف يورو.

وليس هذا المشهد إلا بعضاً مما يتعرض له الرئيس الفرنسي من ضغوطات حيال محاولاته لرفع سن التقاعد في فرنسا، حتى أصبح البعض يرى أن نظام رفع سن التقاعد هذا سيكون عنوان فترته الرئاسية بأكملها. فإلام يسعى الرئيس الفرنسي؟ وهل هو محق في محاولاته المستميتة إلى إقرار هذا النظام؟

سن التقاعد، هي العمر الذي يستحق فيه الفرد مرتبه كاملاً عن تركه للعمل، وهذا العمر يتفاوت من 60 إلى 68 عاماً حسب الدول. وفي فرنسا، يتقاعد الرجال قبل أمثالهم في الدول الأوروبية الأخرى بسنتين على الأقل. وبينما عانت العديد من الدول منذ سبعينات القرن الماضي من صناديق التقاعد، واضطرت البلدان إلى رفع سن التقاعد تدريجياً حتى تتلافى العجز في صناديق التقاعد، كانت فرنسا تسير في الاتجاه المعاكس، فانخفضت سن التقاعد في فرنسا عن المتوسط منذ ذلك الحين. وأنظمة التقاعد عموماً تواجه أزمة في العالم، فقد صممت في وقت اختلف فيه معدل الأعمار في العالم عن الوقت الحالي، وأصبح التعديل فيها يواجه معارضة شعبية كبيرة، قد تودي ببعض الساسة إلى نهاية مسيرتهم السياسية.

وما يحاول (ماكرون) فعله الآن برفع سن التقاعد، أقرّه المجلس الاستشاري للمعاشات في فرنسا؛ حيث أصدر المجلس تقريراً في سبتمبر (أيلول) 2022 بيّن فيه أداء نظام التقاعد في عام 2021، حيث تمتع صندوق المعاشات بفائض اقترب من مليار يورو، وتوقع التقرير أن يستمر هذا الفائض في عام 2022 ليربو على 3 مليارات يورو. لكن التقرير توقع أن يقع الصندوق في عجز مستمر بعد ذلك ما لم تتغير الحال، داعياً إلى تبنّي استراتيجية أكثر استدامة لنظام المعاشات الفرنسي حتى لا يكون عالة على الحكومة. والحال لن تتغير إلا بأمرين، أولهما أن يرتفع النمو السنوي للإنتاجية في فرنسا ليصل إلى 1.7 في المائة حتى عام 2030، هذا الرقم يبدو أشبه بالمعجزة اليوم بالنظر إلى أن المعدل السنوي للنمو بين عامي 2009 و2019 لم يتعدّ 1 في المائة.

أما الأمر الثاني فهو ما يحاول (ماكرون) إقراره، وهو رفع سن التقاعد من 62 إلى 64، بحيث يستحق الموظف في فرنسا راتبه كاملاً بعد 43 سنة من الخدمة، بدلاً من 41 عاماً، وذلك بزيادة سن التقاعد ثلاثة أشهر كل عام حتى عام 2030. ويهدف هذا النظام إلى زيادة نسبة العاملين ممن تعدوا الستين عاماً، وذلك لضخ المزيد من الأموال في صندوق المعاشات.

وعلى الرغم من أن أنظمة المعاشات عادة ما تُشكل على الدول، فإن فرنسا، بالأرقام، تنفق أكثر من غيرها من الدول الأوروبية على المعاشات؛ فنحو 14 في المائة من إنتاج فرنسا يذهب للمتقاعدين، مقابل 12 في المائة للدول الأخرى. والمتقاعدون الذين يبلغ عددهم نحو 17 مليوناً في فرنسا، سيزيد عددهم ليصبحوا 21 مليوناً بحلول 2050. وإذا لم يتغير النظام في فرنسا، فسيخسر نظام المعاشات ما بين 0.4 في المائة و0.8 في المائة سنوياً حتى عام 2030. وفي حال إقرار نظام (ماكرون) التقاعدي، فسوف يوفر نظام المعاشات نحو 18 مليار يورو بحلول عام 2030، بينما إن لم يتغير شيء، فقد يتعدى العجز حينها 13 مليار يورو.

إن (ماكرون) اليوم في موقف حرج للغاية، فشوارع باريس ملأى بنحو 10 آلاف طن من النفايات بعد الإضرابات، والأمن يعاني من جرّاء الاحتجاجات التي منعت السياح من السفر إلى بلاده، واقتصاده الذي يحمل ديوناً بنسبة 113 في المائة من الناتج القومي لا يمكّنه من دعم نظام المعاشات.

وإقراره هذا النظام شيطَنَهُ في نظر الفرنسيين، وقد صرّح بأنه لا يمانع أن يظهر بالمظهر السيئ إذا كان ذلك في مصلحة فرنسا، ولكن الزمن وحده كفيل بإظهار تبعات هذا القرار الذي قد يكون وقوداً لحكومة فرنسية قادمة ذات نَفَس شعوبي، وقد يعجل في الوقت نفسه بساعة تنحي حكومة ماكرون وحزبه عن رئاسة فرنسا.