بعيدا عن الخلافات الداخليّة اللبنانيّة المضحكة المبكية من نوع تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي في الوقت الحاضر بسبب حلول شهر رمضان. بعيدا أيضا عمّا أثاره القرار من حساسيات ذات طابع طائفي مقرف عبّر عنها جبران باسيل رئيس “التيار الوطني الحر” الذي كشف مدى تعصّبه الأعمى وقصر نظره في آن… يبقى أن القرار الذي اتخذه رئيسا مجلس النواب نبيه برّي ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي يستهدف إلهاء اللبنانيين عن الأزمة المصيريّة التي يمر فيها بلدهم. أقلّ ما يمكن قوله في ظلّ هذه الأزمة أن مصير لبنان بات مطروحا. المسألة أبعد من توقيت صيفي بكثير.

في السنة 2023، لبنان يحتل المرتبة ما قبل الأخيرة في قائمة سعادة الشعوب في العالم. لم يعد أمامه غير التفوق على أفغانستان التي تحكمها “طالبان”، حيث لا اعتراف بالمرأة وحقوقها، بما في ذلك حق الذهاب إلى المدرسة ثمّ الجامعة. في حال استمر التدهور في لبنان ليس مستبعدا حلوله في المرتبة الأخيرة في قائمة سعادة الشعوب في السنة 2024. صار تحقيق مثل هذا الإنجاز احتمالا واردا مع وجود مثل هذا الإصرار على تكريس لبنان مستعمرة إيرانيّة لا كهرباء فيها فيما عملتها الوطنيّة تترنّح.

يتقدّم لبنان بثبات نحو مزيد من الانهيار الذي سيؤدي إلى زواله في ظلّ هيمنة الشيعيّة السياسيّة عليه بغطاء إيراني مكشوف. تختزل الهدف الإيراني في لبنان المطالب الثلاثة التي قدمها المسؤولون الإيرانيون لسعد الحريري عندما زار طهران في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 2010. لم يتغيّر شيء في هذه المطالب التي تتلخص بالسماح للإيرانيين بدخول لبنان من دون تأشيرة أولا، وتوقيع لبنان معاهدة دفاع مشترك مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ثانيا، والسماح بدخول إيران النظام المصرفي ثالثا. عفوا، بين خريف 2010 وشتاء 2023، تغيّر النظام المصرفي اللبناني الذي لم يعد له وجود نتيجة عوامل عدّة. بين هذه العوامل الحرب التي شنّها “حزب الله” على المصارف اللبنانيّة بطريقة ممنهجة تحت شعار أنّ النظام اللبناني هو “نظام المصرف”.

كان رفض سعد الحريري تنفيذ المطلوب منه إيرانيا، بين أسباب إسقاط حكومته في كانون الثاني – يناير 2011 في أثناء لقاء بينه وبين الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض. لم يكن سعد الحريري وحده المستهدف. كان المستهدف موقع رئيس مجلس الوزراء، أي الموقع السنّي الأوّل في لبنان. كان إسقاط الحكومة وقتذاك رسالة وجهتها طهران إلى واشنطن. فحوى الرسالة أنّ مصير لبنان حُسم نهائيا وأن بيروت مدينة إيرانيّة على شاطئ المتوسط. ليس صدفة أن يوافق لبنان على ترسيم حدوده البحريّة مع إسرائيل قبيل خروج ميشال عون من قصر بعبدا في تشرين الأوّل – أكتوبر 2022 بعد ضوء أخضر جاء من طهران وليس من أيّ مكان آخر!

الأكيد أنّ الوضع الإيراني الداخلي ليس مريحا للنظام. لو كان هذا الوضع مريحا ولم يكن النظام يواجه ثورة حقيقيّة تتميّز بأنها ثورة على نار خفيفة، لما كان ممكنا التوصل إلى البيان الثلاثي بين الصين والسعوديّة و”الجمهوريّة الإسلاميّة”. التزمت إيران في البيان “احترام سيادة الدول الأخرى وعدم التدخل في شؤونها الداخليّة”. لكنّ الأكيد أيضا أنّ إيران غير مستعدة لأي تراجع في ما يخصّ لبنان.

يظلّ لبنان آخر مكان يمكن أن تقدّم فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” تنازلات. يعود ذلك بشكل خاص إلى أنّ لبنان هو المكان الذي حققت فيه “الثورة الإسلاميّة” أكبر نجاحاتها. استطاعت إيران في نهاية المطاف تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان. تسيطر على 27 نائبا شيعيا من أصل 27 في مجلس النواب.

الأهم من ذلك كلّه أن سلسلة الانقلابات التي نفذتها إيران، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، لم تتوج بتهميش دور رئيس مجلس الوزراء فحسب، بل توجت أيضا بتحولها، بفضل ميشال عون وجبران باسيل، إلى الطرف الذي يحدّد للبنانيين من هو رئيس جمهوريتهم الماروني. حوّل “حزب الله”، في عهد ميشال عون الذي هو عهده، رئيس الجمهوريّة إلى شخص لا همّ له سوى الاعتداء على رئيس مجلس الوزراء وصلاحياته. فعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم كي يُظهر الصراع الداخلي اللبناني بأنّه صراع سنّي – مسيحي تحت لافتة “استعادة حقوق المسيحيين في لبنان… من أهل السنّة”.

يمرّ لبنان في فترة عصيبة في ظلّ افتقاده لقيادة سياسيّة تتمتع بحد أدنى من الروح الوطنيّة من جهة ورؤية واضحة لدى سياسييه من جهة أخرى. لا قيادة سياسية في بلد بات “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، مرجعيته الأولى والأخيرة. لا رؤية لدى السياسيين كون معظم هؤلاء لا يدركون أنّ بلدهم صار تحت الاحتلال الإيراني منذ فترة طويلة…

سيتوجب على لبنان العيش طويلا مع الفراغ الرئاسي، لا لشيء سوى لأن إيران تعتبر أنّ أي تراجع في ما يخصّ هذا الملفّ سيجرّ إلى تراجعات أخرى لا تريد السماع بها في لبنان على وجه التحديد. تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” تقديم تنازلات في اليمن الذي يهمّ المملكة العربيّة السعوديّة. حصل ذلك في ملفّ تبادل الأسرى الذي شمل مواطنين سعوديين. لكنّ لبنان يظلّ موضوعا آخر، لا لشيء سوى لأنّه لم يعد يهمّ أحدا، بما في ذلك عرب الخليج وأميركا… إضافة، في طبيعة الحال، إلى أنّه الاستثمار الأكبر والأكثر نجاحا في التدمير ونشر البؤس، خارج الحدود الإيرانيّة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” منذ العام 1982.

في ضوء التوتر بين أميركا وإيران، وهو توتر محصور حاليا بالأراضي السوريّة، ليس لبنان سوى تفصيل صغير في لعبة دولية تدور على رقعة أرض واسعة تبدأ في أوكرانيا. ما الذي ستسفر عنه هذه اللعبة الدولية، لا جواب واضحا بعد. الأكيد أن هناك إعادة رسم لحدود الدول في الشرق الأوسط. الأكيد أيضا أن لبنان يعاني مما هو أسوأ من الفراغ الرئاسي. السؤال هل يبقى البلد أو يزول عن خريطة المنطقة؟