دوافع أي حرب وأسبابها الحقيقية التي تدفع القيادة السياسية في دولة ما إلى تحريك جنودها إلى ساحة المعركة لتصفية حساباتها مع دولة أخرى، لن تكون مقنعة إلا للقيادة السياسية في تلك الدولة التي اتخذت قرار الحرب؛ ولهذا تجد تداول مصطلح الحياد تعبيرًا عن الموقف من الحرب منتشرًا بين الدول والمجتمعات غير المتورطة في تلك الحرب. هذا المفهوم يطفو على السطح أيام الحروب والأزمات الدبلوماسية الحادة، ويكون في العادة، وعقلاً ومنطقًا، مطلوبًا مع كل حرب تنشب بين طرفين. ولنعترف أن واقع العولمة قد فرض أن يكون لكل النزاعات التي تنشأ بين الدول تأثيرها المباشر في السلم والاستقرار العالميين، إذ فرض منطق التحالفات الذي وجدت دول العالم كلها نفسها مُجبرة عليه أن تجد الدولتان المتنازعتان حليفًا أو أكثر يناصرها ويسند ظهرها ويشد أزرها بالموقف والسلاح والعتاد وربما بالجنود، وبهذا تتسع رقعة النزاع وتتوتر الأوضاع بسبب شمول الحرب أطرافا دولية مؤثرة يشكل تصادمها خطرًا قد يتهدد العالم بأسره.

لكن، من جهة أخرى؛ ولأن الحياد هنا لا يخدم الدولتين المتحاربتين ولا حتى دول العالم الأخرى، يُلاحظ تحرك الإعلام في الدولة البادئة بالحرب ليقنع الآخرين بأسبابه، فيما يتحرك إعلام الدولة الثانية وإعلام حلفائها لنصرتها في هذه الحرب، وفي هذا وجه آخر من وجوه المعركة إن لم نقل إنه امتداد رمزي لأشكال متعددة من الحروب تتحول معه وسائل الإعلام إلى راجمات قذائف ومنصات لصواريخ تنطلق مدادًا وتنتهي دماءً. من حيث المبدأ ينبغي القول إن مفهوم الحياد ملتبس ولا شك، وشخصيًا أتفهم الحياد على أنه الوقوف على مسافة واحدة من خصمين لدودين لم يتمكنا من تغليب الحل السلمي لمشاكلهما القائمة فلجآ إلى حلها بالسلاح، وعلى الدول الأخرى، أي التي اختارت الحياد سياسةً، ألا تظهر تأييدًا، ماديًا أو معنويًا لهذا الطرف أو ذاك. الحياد المطلق لا وجود له، وإن وجد فهو لا يسهم في إرساء السلام العالمي. ولهذا ظهر الحياد الإيجابي مفهومًا جديدًا يتعلق به الأمل في تحرك الدول للتوسط بين الدول المتحاربة.

ولذلك فمن أجل هذا كله ظهر مفهوم الحياد الإيجابي سبيلاً مرغوبًا قد يساهم في وقف الحرب وحقن الدماء.

هذا هو ما يحصل في الواقع اليوم في أوكرانيا التي تحتدم الحرب فيها مع روسيا لأكثر من عام وقد استدرجت هذه الحرب الدائرة بينهما قوى دولية فاعلة تأتي أمريكا على رأسها متبوعة بدول الاتحاد الأوروبي والناتو. صحيح أن هذه الحرب تدور رحاها في القارة الأوروبية وبين الدول الأوروبية، لكن تورط هذه الأطراف مجتمعة فيها يُنذر بنشوب حرب عالمية ثالثة قد تكون الأخيرة نظرًا لما تمتلكه هذه الدول من أسلحة دمار شامل تبيد البشر والشجر والحجر، إذ تفوق القوة التدميرية لقنبلة منها آلاف المرات قوة قنبلتي نجازاكي وهيروشيما. إن احتدام الصراع الروسي الأوكراني رغم موجات الكر والفر يدفع كل متابع لأطوار هذه الحرب إلى التساؤل إن لقي فعلاً مفهوم الحياد عامة والحياد الإيجابي على وجه التخصيص إبان اندلاع الأزمة بين روسيا وأوكرانيا آذانًا صاغية، وإن كانت الدول جادة في البحث عن حلول سياسية ودبلوماسية للأزمة الروسية الأوكرانية قبل أن يشتعل فتيل هذه الحرب؟ ثم ما الحياد إذا لم يكن إيجابيًا، ومؤداه في نهاية المطاف وقف هذه الحرب الطاحنة التي أودت بأرواح عشرات الآلاف وشردت الملايين وأضرت باقتصادات الدول؟

جمهورية الصين الشعبية دولة تتخذ من الحياد الإيجابي موقفًا إزاء هذه الحرب، وإن أرادت أمريكا وأوروبا من خلال إعلامها وصم الموقف الصيني الرسمي بالمنحاز، فهي لا تقدم دعمًا عسكريًا لروسيا بأي شكل من الأشكال، بل إن موقفها المحايد هذا يجعل منها وسيطًا مقبولاً بين الدولتين لبدء محادثات سلام. لكن يبدو أن أمريكا ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي لا تقبل أي دور صيني قد يفرض عمليًا تحول التنين الأصفر الصيني إلى القوة الأولى عالميًا خصوصًا إذا ما تعززت علاقة روسيا بجمهورية الصين، ولا ترضى بالحياد موقفًا إزاء هذا الحرب بل إنها لتدفع دول العالم قاطبة للوقوف ضد روسيا باعتبارها دولة تشكل تهديدًا للنفوذ الأمريكي في العالم.

الوقوف على الحياد مطلوب من الدول حتى لا يتم تأجيج نيران التنازع وتوسيع رقعة الحرب، لكن هل الموقف الحيادي مطلوب من الشعوب؟ من وجهة نظري، وخصوصًا إذا سلمنا بأن الحكومات، وخصوصا تلك المنتخبة ديمقراطيًا، تبني مواقفها بما يتناغم مع الرأي السائد في المجتمع، فإن الحكومات، الديمقراطية اندفعت بسرعة الصاروخ للاصطفاف مع أوكرانيا ضد روسيا، وهو ما أوحى منذ البداية بأن هذه الحرب سوف تستغلها الدول الغربية مع أمريكا لتصفية حسابات قديمة مع روسيا. الشعوب في الدول الأوروبية لم تخيّر، بل تم الزج بها في جو الحرب العسكرية والإعلامية والاقتصادية زجًا بدأنا رغم التعتيم الإعلامي نسمع في هذه الأيام من شخصيات مؤثرة في الرأي العام الغربي أصواتا ترفض هذه الحرب وتعيب على الدول الغربية اصطفافها الأعمى وراء حرب تديرها أمريكا بعيدًا عن أراضيها بوكالة أوكرانية ودعم أوروبي لم تستفد منه عمليًا إلا الآلة الاقتصادية الأمريكية.