تُثار بين حين وآخر مسألة عمل اللجان والجمعيات الخيرية، وعما إذا كانت أموالها الضخمة تُستَخدَم لأغراض سياسية أو فكرية لا علاقة لها بالعمل الخيري، حتى تحولت المسألة إلى سجال بين رعاة العمل الخيري في مؤسسات الإسلام السياسي على وجه الخصوص، وبين جهات مدنية أخرى ترى أن الأمر بحاجة إلى تنظيم وإشراف ومراقبة حقيقية، بل تضاعفت حدة مثل هذا السجال وخرج من أراضي المسلمين ليصبح قضية دولية إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من مشروع أميركي لمواجهة الإرهاب، وهو المشروع الذي وضع أغلبية الجمعيات الخيرية في مواجهة مدفع الحرب الدولية على سلوك وأداء بعض الجمعيات الخيرية.

المشكلة أن القضية، حتى الآن، لم تخرج عن إطار النقد لعمل بعض الجمعيات واللجان الخيرية، ومن دون طرح مشروع خيري في المقابل يحمي المتضررين من هذه الرقابة الدولية على أموال اللجان والجمعيات من الفقراء والجياع والمحتاجين في كل أرجاء العالم.

كتب الزميل بدر خالد البحر مقالاً الأسبوع الماضي يتحدى فيه وزارة الشؤون في جمعياتها الخيرية، مطالباً بالمزيد من الشفافية في العمل الخيري، بعد أن كشفت تصريحات لبعض أقطاب الإسلام السياسي بجواز دفع الزكاة تحت بند «في سبيل الله»، أي لأنشطة الأحزاب والجماعات الإسلامية الدعوية والحملات الانتخابية، بالإضافة إلى ما تأخذه الجماعات من باب «العاملين عليها» من لا ينطبق عليهم شرعاً، طبقاً لرأي كبار العلماء، والشرح الصحيح لكتاب الله. ويطالب الزميل بدر البحر في ختام مقاله بوضع نسبة الاستقطاعات من أموال الزكوات في وصل التبرّع بالإضافة إلى نسبة المصاريف، وبحيث تكون مكتوبة بشكل رسمي على الوصل بعد دفع الصدقات أو الزكاة.

اختلف الفقهاء في تفسير «العاملين عليها» وفقاً لما ورد في سورة التوبة: بسم الله الرحمن الرحيم «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ...» (صدق الله العظيم)، فبالنسبة للإمام الشافعي فإن «العاملين عليها» يأخذون بقدر أجورهم، بينما يرى أبو حنيفة بأنها أجرة وليست بصدقة لأنهم يأخذونها مع الغني، ولو كانت صدقة لَحُرّمت عنده على الأغنياء. أما المارودي، فإنه يرى أن «العاملين عليها» هم صنف من أهل السهمين يُعطَون أجورهم منها صدقة. واختلاف الفقهاء أمر اعتيادي لأسباب كثيرة، أبرزها الاختلاف على دلالة اللفظ في الحكم المُتنازَع عليه أو المُختَلَف حوله.

لا شك في أن الزكاة والصدقات والتبرعات لسد حاجة الفقراء والمعوزين هي كلها أمور جيدة ومحمودة يحث عليها القرآن وتدعمها السنة النبوية. والسؤال الذي لم يجد إجابة شافية حتى الآن لا يتعلّق على الاطلاق بجدوى أعمال الخير بقدر ما يتعلّق بقدرة وكفاءة ومنزلة المشرفين على هذه الأعمال والخيرات، خصوصاً في ظل ما نشهده ونسمعه من روايات حَدَثَت لأقارب ومعارف حول ضياع صدقاتهم وزكواتهم التي تم صرفها لأغراض شخصية أو سياسية أو انتخابية أو لدعم تيارات معينة، ما دفع البعض للجوء إلى وسطاء مضمونين، حتى وإن كانوا أفراداً، يقومون بأنفسهم بتوزيع وتوصيل تلك الأموال والتبرعات.

المشكلة في أغلبية اللجان والجمعيات الخيرية في عالمنا الإسلامي بشكل عام أنها تفتقد الشفافية والتنظيم الإداري المؤسسي النافذ، هذا بالإضافة إلى غياب القوانين والنظم الإدارية في أغلبية الدول التي تتلقى مثل هذه الزكوات أو الصدقات، ما ينعكس، وبشكل مباشر، على العدل والمساواة والشفافية في توزيعها على المحتاجين.

الشكاوى من فساد بعض الجمعيات واللجان الخيرية لا تقتصر على الكويت فقط، ولا على دول الخليج وحدها باعتبارها دولاً ثرية تُشكّل حصيلة الزكاة فيها ثروات هائلة قد تغري من في قلبه مرض، وإنما طالت مثل هذه الشكاوى دولاً متوسطة الدخل يتذمر الناس فيها من غياب الشفافية في الكثير من لجان الزكوات والصدقات والجمعيات الخيرية. لذلك أصبحت عملية التنظيم الصارم اليوم مسألة ضرورية حتى لا يتحول العمل الخيري إلى مشروع استثماري في مجالات أخرى.

العمل الخيري هو عمل إنساني في أساسه، ولا تنطبق عليه شروط الحدود الجغرافية ولا السياسية ولا الفكرية ولا غيرها، وإلا تحوَّل إلى مشروع سياسي خالص.