خالفت نتائج الانتخابات التركية، يوم الاحد الفائت، توقعات عدد كبير من مراكز الاستطلاع المحلية، إضافة إلى توقعات عدد كبير من وسائل الإعلام الغربية التي اتخذت مواقف من الانتخابات، معظمها منتقد للرئيس رجب طيب أردوغان ومؤيد للمعارضة. وإذا كان التراجع هو سمة معركة الرئيس التركي ومعه "حزب العدالة و التنمية"، فإنه لم يكن بالحد الذي كان متوقعاً. فقد كاد أردوغان ينفذ من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بفارق نصف نقطة مئوية خسرها مع ارتفاع نسبة تأييد "تحالف الأجداد" الداعم للمرشح سنان أوغان ذي التوجه القومي المتشدد، وتراجع نسبة تأييد عنصر الشباب لـ"تحالف الجمهور" الحاكم.


ومع ذلك كانت الخيبة كبيرة في معسكر المعارضة التي توقعت طوال الأيام التي سبقت يوم الانتخابات الفوز الكبير على أردوغان المنهك بالأزمة الاقتصادية القاسية وتبعات الزلزال المدمر الذي وقع في شهر شباط - فبراير الماضي، وذهب ضحيته نحو 45 ألف شخص، وتآكل نسبة التأييد له ولحزبه في أوساط الشباب، ودخول نحو 5 ملايين ناخب جديد للمرة الأولى إلى ميدان التصويت، وهؤلاء بالتعريف لا يعول على معظمهم لتأييد الرئيس التركي في الانتخابات.

طبعاً ثمة أسباب أخرى داخلية تتعلق بتراجع الحريات العامة، وخارجية بتزايد أزمات تركيا الإقليمية وإحدى نتائجها التي أضعفت أردوغان وحزبه كانت مسألة اللاجئين السوريين التي تحولت إلى موضوع ساخن في الحملات الانتخابية. من جهتها، فوتت المعارضة فرصة مهمة، وإن نجحت بعد طول معاناة في تركيب تحالف "الطاولة السداسية". لكن الأخيرة لم تعكس نمطاً جدياً في إدارة المعركة، فلم تعكس حالة من التنسيق الجدي، ومن الالتقاء حول برنامج حكم محكم، بل بدا من خلال المسارعة إلى توزيع مناصب نيابة الرئاسة في ما بينها، كأنها قدمت لعبة المغانم في السلطة على غيرها من الأهداف في حال الانتصار. أضف إلى ذلك تحالف المعارضة مع "حزب الشعوب الديموقراطي" الكردي المتهم من القوى القومية بأنه واجهة سياسية لـ"حزب العمال الكردستاني" المحظور في الداخل التركي. كل هذا أدى إلى إشاعة ارتباك في صفوف القاعدة الناخبة التي كانت متحمسة لإطاحة الرئيس التركي أردوغان وحزبه بعد عقدين من الحكم.

وما من شك في أن طول بقاء أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" في السلطة أفادهما في بناء قاعدة صلبة داخل مؤسسات الدولة المدنية والأمنية العسكرية، لكنه أكل من رصيدهما، لا سيما في أوساط فئة الشباب والشرائح المدنية البرجوازية. من هنا خسارة أردوغان مدينتي إسطنبول وأنقرة. لكن تماسك "حزب العدالة والتنمية"، لا سيما تماسك النواة الصلبة داخله، منحه تفوقاً ميدانياً وتنظيمياً على "حزب الشعب الجمهوري"، فتوجه محازبو "العدالة والتنمية" إلى صناديق الاقتراع منظمين، خصوصاً أن قوة الحزب المذكور هي في الأرياف، فيما قوة المعارضة تتركز في المدن الأقل انضباطاً على مستوى التصويت. لكن لا بد من القول إن الاصطفافات كانت قوية جداً، إذ صوّت أكثر من 90 في المئة من الناخبين، واستفادت المعارضة إلى حد بعيد من أجواء الحشد الدعائي والسياسي ضد أردوغان، ومن إشاعة مناخ يفيد بأنه سيهزم حتماً، ما ضاعف من حماسة المعارضين ودفعهم إلى التصويت بكثافة غير مسبوقة.

ومن اللافت أن يكون "تحالف الجمهور" الحاكم قد احتفظ بأكثرية 321 مقعداً من أصل 600 في البرلمان، ما أراح كثيراً أردوغان الذاهب إلى دورة ثانية في 28 من الشهر الجاري. لكن أمامه عقبة اجتذاب ما أمكن من كتلة أصوات قومية أيدت المرشح الثالث سنان أوغان. هذه الأخيرة تحتاج لأن تنتزع من أردوغان مواقف ذات طابع قومي متشدد ضد الأكراد واللاجئين السوريين، إضافة إلى حصد مواقع وزارية وإدارية في الدولة. من هنا يستطيع أردوغان أن يعطي أكثر من كليتشدار أوغلو الذي اعتمد في الدورة الأولى على أصوات أتته من الكتلة الناخبة الكردية التي تذهب في العادة إلى "حزب الشعوب الديموقراطي". لكن استمرار كليتشدار أوغلو في التحالف مع الحزب الكردي سيدفع بسنان أوغان وكتلة الأصوات القومية إلى عقد صفقة مع أردوغان وحزبه.

لا يزال هناك وقت طويل بالمقاييس السياسية قبل يوم 28 أيار. ورغم أن الرياح تسير مع "أشرعة" الرئيس أردوغان، فإن المفاجآت ليست مستبعدة كلياً في بلد صارت فيه هوامش التنافس السياسي ضيقة للغاية!