منذ منتصف الصيف، يشهد لبنان موجة جديدة وكبيرة من النزوح السوري، لكنّها مختلفة من ناحية خطورتها، إذ تسلّل إلى الأراضي اللبنانية ما بين خمسة وعشرة آلاف نازح سوري عبر المعابر غير الشرعية بمساعدة مافيات التهريب السورية – اللبنانية العاملة على جانبي الحدود، تحت "الأعين الساهرة" لكلتا السلطات السورية وقوى الأمر الواقع اللبنانية في منطقتي البقاع والشمال المحاذيتين للحدود.

وفي هذا المجال، تعجز السلطات اللبنانية التي ترفع الصوت بين الفينة والأخرى، عن التصدي لهذه الموجة، نظراً لضخامتها ولكثرة المعابر غير الشرعية التي تستخدم لهذه الغاية، ولقوّة المافيات المحميّة إمّا من أحزاب "ممانعة" في البقاع، أو قوى سياسية محلّية في الشمال اللبناني. أمّا القوى الأمنية ومعها الجيش اللبناني، فبالكاد تنجح في توقيف مجموعات لا تتعدى نسبتها 10 في المئة من إجمالي عدد الذين يتم ادخالهم خلسة إلى لبنان.

هذه أزمة حقيقية، في وقت كان لبنان الرسمي، لاسيما القوى المنتمية إلى محور "الممانعة" بقيادة "حزب الله"، ينادي بضرورة التعامل مع النظام في سوريا والتطبيع معه في سبيل حل المشاكل الثنائية، وأهمها اليوم قضية النزوح السوري المتفاقمة، حيث تقول بعض الأوساط الأمنيّة الرسميّة اللبنانية إنّ عددهم يكاد يتجاوز مليونين و200 ألف نازح، من بينهم شريحة تصل إلى مليون نازح وصلوا في العامين الأخيرين، أي بعد تراجع الأحداث الأمنية في سوريا واستقرار مساحة واسعة من المناطق التي يتحكم بها النظام.

ووصلت الموجة الأخيرة، التي تبلغ نحو ربع مليون نازح، في الأشهر القليلة الماضية بشكل أكثر تنظيماً من أي وقت مضى، إذ إنّ الضرورات الأمنيّة معدومة كون سوريا لم تشهد تطوّرات حربية دراماتيكية في العامين الماضيين.

وانطلقت موجة النزوح هذه مباشرة بعد الانفتاح العربي على دمشق، وإعادتها إلى مقعدها في الجامعة العربية، تزامناً مع تقديم مجموعة مطالب عربية تحت عنوان "خطوة في مقابل خطوة" التي تعتبر مفتاح الانفتاح والتطبيع الكاملين مع النظام. وهذه السياسة التي ابتكرها العاهل الأردني الملك عبداله الثاني، كان من المقرّر حسب وجهة نظره أن تكون شرطاً مسبقاً، لا شرطاً مؤخّراً لعودة دمشق إلى الجامعة العربية. وكان بند حلّ أزمة اللجوء السوري إلى دول الجوار، لاسيما لبنان والأردن، أساسياً. إلا أنّ ما حصل كان العكس تماماً، مع انطلاق موجة نزوح سوريّة نحو لبنان كون حدوده مُشرّعة أمام سوريا، على عكس الأردن الضابط لمناطقه الحدوديّة.

واليوم، بعد مرور خمسة أشهر تقريباً على بدء مسار الانفتاح العربي على سوريا، يمكن القول إنّه بالنسبة لملف اللجوء السوري، حصلت تراجعات كبيرة وخطيرة تُنذر بخطر داهم في لبنان الذي لا يتحكّم جدّياً بحدوده مع سوريا في ظلّ سيطرة "حزب الله" ومعه قوى عشائرية محلية في منطقة البقاع اللبناني، وتواطؤ قيادات سياسية محلية في الشمال. كل ذلك، إضافة إلى ضعف قدرات الجيش اللبناني أمام حجم الأزمة وكثافة عمليّات التسلّل اليومية التي تتم على مدار الساعة.

وفي حين يعلم المسؤولون اللبنانيون أنّ ضبط المعابر الشرعيّة ممكن، إلا أنّ ضبط 140 معبراً غير شرعي بين لبنان وسوريا يُعدّ من رابع المستحيلات ما دامت "الشراكة" بين الجانب السوري الرسمي والمافيوي، والجانب اللبناني المافيوي والميليشيوي والسياسي المحلي قائمة على قدم وساق. ولعلّ أخطر ما في ارتفاع عدد النازحين واللاجئين السوريين في لبنان إلى مستويات فلكيّة نسبة لعدد المواطنين اللبنانيين، هو توزّعهم في مختلف المناطق على كامل المساحة اللبنانية، في القرى والبلدات والأحياء في المدن، فضلاً عن الأراضي المفتوحة كالبقاعين الغربي والشمالي قرب الحدود ومحافظة عكار.

ما تقدم من معطيات صادمة يفوق قدرات لبنان بأشواط. ويُنذر بأزمة حقيقية وخطيرة للغاية. وخصوصاً أنّنا بدأنا نسمع في أوساط شعبية لبنانية كلاماً من قبيل أنّ الوضع قد يتدحرج نحو احتكاكات دمويّة في الشارع بين لبنانيين ونازحين سوريين في أكثر من منطقة. وللتذكير، فإنّ قائد الجيش اللبناني جوزيف عون تحدّث قبل أسبوعين عمّا أسماه "الخطر الوجودي!".