التجار الكويتيون الذين استقروا في الهند للعمل التجاري، قبل اكتشاف النفط في منطقة الخليج، أي في زمن الاقتصاد القائم على النشاط البحري وصيد اللؤلؤ، كثر ولكل منهم حكاية مختلفة مفعمة بصور الكفاح والعطاء والبذل وتعكس ما كان للرعيل الخليجي الأول من صولات وجولات في الهند البريطانية. لكن حديثنا هنا يقتصر على رواية سيرة أحدهم، وهو المرحوم التاجر «جاسم محمد حمد عبدالرحمن بن زيد بودي»، وسوف نستند في ذلك إلى تفاصيل دقيقة أوردتها الباحثة الكويتية القديرة «حصة عوض الحربي» في موسوعتها الكاملة المصورة الموسومة «تاريخ العلاقات الكويتية الهندية 1896-1965»، ونطعمها بمصادر أخرى مثل كتاب «أعلام في الجزيرة العربية والخليج» لمؤلفه أحمد بن برجس.

في النصف الثاني من القرن 17 الميلادي انتقلت عائلة بودي من موطنها الأصلي في بلدة العيينة النجدية إلى مدينة الدرعية، وهناك انقسمت إلى قسمين: قسم ارتحل إلى الأحساء، وهم محمد بن عبدالله بن ناصر بودي وأبناؤه، حيث استقروا وتكاثروا وامتزجوا بأهلها فصاروا من أبنائها ووجهائها، وقسم آثر أن يرتحل إلى الكويت حيث استقر في حي الوسط من العاصمة وتحديداً في الموقع المعروف باسم «ساحة بودي» مقابل قصر السيف حاليًا.

وطبقا لما ورد في موقع منتدى تاريخ الكويت الإلكتروني، فإن هجرة العائلة إلى الكويت كانت بسبب الاضطرابات والحروب التي شهدتها منطقة نجد زمن الدولة السعودية الأولى، وأن تواجدهم في الكويت تصادف مع انتشار مرض الطاعون الذي فتك بأسر كثيرة ومنها أسرة بودي التي لم يبقَ من رجالاتها سوى عميدها حمد عبدالرحمن بودي وابن عمه عبدالعزيز. ويقال إن سبب تسمية العائلة، التي تنتسب إلى الجبور من بني خالد، بهذا الاسم هو طول أيدي أحد أجدادهم.

أنجب حمد عبدالرحمن بودي أربعة أبناء هم محمد وأحمد وعبدالوهاب ويوسف. وأنجب إبنه الأكبر «محمد حمد بودي»، الذي كان مقربًا من الشيخ عبدالله الثاني بن صباح، خمسة أبناء، أحدهم هو جاسم محمد حمد عبدالرحمن بودي (المترجم له). والذي ولد بالكويت في عام 1875 وتلقى تعليمه على يد جده حمد بودي، أحد علماء الكويت آنذاك، وعلى يد عمته «المطوعة» مريم حمد بودي التي علمته القرآن والكتابة والقراءة والحساب. وحينما كبر اتجه إلى العمل التجاري مقتديًا في ذلك بوالده. ومع مرور الزمن وسعيه إلى اقتناص الفرس التجارية المجزية واخلاصه لمهنته وأمانته ومثابرته تضاعفت ثروته حتى غدا من كبار التجار العاملين في تجارة التمور والحبوب، حيث كان يصدرها من منطقة الأهوار في العراق بحرًا إلى عدن ودبي والهند موانئ شرق أفريقيا.

لاحقًا، وبسبب متطلبات محله التجاري في الكويت، افتتح لنفسه مكتبًا تجاريًا في كراتشي في عام 1906، بل ترك الكويت واستقر هناك لمباشرة العمل بنفسه، فكان يشرف على تحميل السفن الكويتية المتجهة إلى بلده بالحنطة والشعير والدقيق والأرز والماش، كما كان يتولى من خلال مكتبه تصريف تمور مزارع الشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة ومزارع الشيخ مبارك الصباح ومزارع عائلته في الأسواق الهندية. وكدليل على نجاحه التجاري وتضخم ثروته، أخبرتنا الباحثة الحربي في الصفحة 220 من كتابها أن ثروة جاسم بودي بلغت في عام 1917 ما يقارب مليونين و300 ألف روبية، الأمر الذي شجع شركة الشيرازي (إحدى الشركات الملاحية العاملة في بومباي لحساب الحكومة اليابانية) أن تعرض عليه بأن يصبح وكيلها في الكويت، وهو ما لم يقبل به حاكم الكويت آنذاك الشيخ جابر المبارك الصباح (1860 ــ 1917)، كون مثل هذا العمل مخالف لبنود اتفاقية الحماية المعقودة مع بريطانيا العظمى سنة 1899.

بعد نحو عامين من الكساد العظيم الذي ضرب العالم وتسبب في خسائر كبيرة للتجار، وتحديدًا في عام 1920 أغلق بودي مكاتبه التجارية في كراتشي وعاد إلى الكويت، حيث برز ضمن طبقتها الاجتماعية والتجارية بدليل حصوله على عضوية المجلس البلدي سنة 1934، ناهيك عن عمله كمحصل للأموال التي كان نواخذة البحر يدفعونها إلى حاكم الكويت والمعروفة باسم «قلاطة الغوص» (قلاطة وجمعها قلاليط هي ايضا حصة البحار في رحلات الغوص بعد خصم ما عليه من ديون). ومما يذكر للرجل بعد عودته إلى الكويت أنه تبرع لبناء السور الثالث بمبلغ 10000 روبية، وتبرع بملغ 5000 روبية لشراء مولد للمياه، وساهم بالمال في بناء المدرسة المباركية، وشارك في حرب الجهراء عام 1920، وزود المساكين والفقراء بالمواد الغذائية مجانًا، بينما باعها على المقتدرين بسعر التكلفة تخفيفا عليهم من ظروف الحرب العالمية الأولى، وكان صاحب أول عنوان برقي في الكويت زمن حكم الشيخ جابر المبارك الصباح. كما كانت له أعمال خيرية إبان إقامته في كراتشي ومنها: الانفاق على طباعة رسالة تسهيل تجويد القرآن الكريم لمؤلفه عمر عاصم في المطبعة المصطفوية ببومباي سنة 1915، ومنها أيضا بناء مضيف في كراتشي للعرب والكويتيين والبحارة الخليجيين المارين بالمدينة.

اقترن جاسم بودي أولاً بإبنة التاجر والسياسي الكويتي سيد علي الرفاعي التي أنجبت له عبدالله وعبدالرزاق ومنيرة، ثم اقترن بالسيدة عائشة مرزوق المرزوق التي رزق منها بعبدالعزيز ومرزوق ومصطفى وغنيمة. وفي عام 1936 أتاه الأجل المحتوم فصلي عليه ودفن في الكويت.

ننتقل الآن إلى سيرة إبنه البكر عبدالله جاسم حمد بودي الذي ولد في الكويت عام 1900 والتحق بوالده في كراتشي للعمل معه في تجارته هناك، لكنه ترك كراتشي بعد فترة وذهب إلى بومباي للدراسة في جامعتها الإسلامية المعروفة باسم «عليغره» (ALIGARH UNIVERSITY)، فأصبح أول كويتي يتخرج من هذه الجامعة العريقة في تخصص العلوم السياسية وإدارة الأعمال. بعد تخرجه، وبسبب تخصصه وإجادته الإنجليزية، تم تعيينه في المعتمدية السياسية البريطانية بالكويت، لكنه طلب نقله إلى الهند في أعقاب الأحداث السياسية التي شهدتها الكويت في عام 1938 والمعروفة باسم «أحداث المجلس التشريعي، فكان له ذلك إذ افتتح لنفسه في شارع «محمد علي رود» ببومباي القديمة مكتبًا تجاريًا لتصدير المواد الغذائية إلى الكويت والخليج، وظل هذا المكتب يعمل من عام 1941 إلى عام 1956. والجدير بالذكر أن عبدالله جاسم بودي استقر في بومباي طويلاً مع زوجته منيرة مرزوق المرزوق وأبنائهما بدر وجاسم وفيصل ومحمد وخالد وهند ونزهة وفاطمة وبدرية في فيلا بمنطقة «مارين درايف» الراقية، ونشأ أبناؤه وترعرعوا ودرسوا في أرقى مدارس بومباي الداخلية. أما وفاته فكانت في الكويت سنة 1981.

أما الابن الآخر لجاسم بودي (المترجم له) واسمه «مرزوق جاسم محمد حمد بودي»، فقد ولد في الكويت عام 1920 ودرس بالمدرسة المباركية، وفي عام 1936، حينما كان يافعًا في سن السادسة عشرة، ذهب إلى كراتشي ليتعلم أصول التجارة عند خاله المقيم هناك التاجر فهد المرزوق، وظل هناك حتى عام 1940، حينما قاده ذكاؤه وطموحه وبعد نظره إلى الانتقال من كراتشي إلى مقاطعة غوا التي كانت وقتذاك جيبا تحت السيطرة البرتغالية ضمن أراضي الهند البريطانية، وذلك اقتداءً بكويتيين سبقوه إلى هناك وتمكنوا من الإثراء والبروز تجاريًا من أمثال إسماعيل العبد رزاق وعبدالعزيز الجلال اللذين استقرا هناك منذ 1935 و1938 على التوالي.

في غوا تمكن مرزوق بودي من تحقيق النجاح والصعود في فترة قياسية لدرجة أنه تفوق على من سبقوه إلى هناك. حيث حصل على تسهيلات وامتيازات من المستعمر البرتغالي في مناجم الذهب والمنغنيز، وتوسعت تجارته بصورة كبيرة بدليل وصول تعاملاته التجارية إلى اليابان وألمانيا وكوريا. وفي سن الخامسة والعشرين اتجهت أنظاره إلى الاستثمار خارج حدود الهند البريطانية فتعامل مع الحلفاء بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، ودخل معهم في صفقات تجارية مربحة تمثلت في شرائه لمخلفات الحرب من خردوات وحديد وملابس عسكرية وتصديرها إلى الهند والخليج، ومن تلك الملابس ما اشتهر كثيرًا في الخليج في الأربعينات والخمسينيات باسم «أوفركوت هتلر» الصوفي الثقيل زيتي اللون.

ظل مرزوق مقيمًا في غوا لسنوات، بنى خلالها هناك مشفى خاصًا باسم «مستشفى مرزوق» وفندقًا تجاريًا باسم «مرزوق هوتيل»، ولم يعد إلى الكويت إلا في عام 1953، فيما خسر ممتلكاته في غوا بسبب قيام الحكومة الهندية بتأميم ممتلكات الأجانب هناك بعد أن نجحت في استعادة المنطقة من المستعمر البرتغالي في عام 1961. وبعد عودته إلى الكويت شارك في تأسيس بنك الكويت الوطني عام 1953 وفي تأسيس شركة ناقلات النفط عام 1957، وفي تاسيس عدد آخر من الشركات التجارية والمصارف، ناهيك عن تملكه لعدة وكالات حصرية لسلع وبضائع استهلاكية متنوعة. وبقي ناشطًا في المجال التجاري إلى أن توفاه الله في الكويت في عام 1964.

ومن مشاهير عائلة بودي في الكويت كل من «أحمد حمد عبدالرحمن بودي» الذي عاش في الفترة من 1870 إلى 1929، وأخيه «يوسف حمد عبدالرحمن بودي» المولود عام 1876 والمتوفي في عام 1968، وهما شقيقان لوالد المترجم له. وهاتين الشخصيتين أسسا تجارتهما المستقلة في المواد الغذائية انطلاقًا من الساحل الشرقي للهند، حيث افتتح يوسف بودي مكتبا تجاريا في كلكتا في عام 1915 بالتعاون مع شقيقه أحمد بودي، وظلا يترددان على الهند ويقيمان بها لسنوات من أجل إدارة مكتبهما والإشراف على أعمالها. وقد أوردت الباحثة الحربي في كتابها نصًا لرسالة بعثها يوسف بودي من كلكتا بتاريخ 1/‏1/1916 إلى التاجر الكويتي محمد سالم السديراوي وكيل الشيخ مبارك الصباح في بومباي، يخبره فيها بأسعار البضائع المتوفرة، ويشتكي له من ارتفاع مصاريف الشحن وسيطرة الإنجليز على النقل البحري.

وبسبب ظروف الكساد العالمي، لم يستمر مكتبهما التجاري في كلكتا طويلاً، إذ قاما بإغلاقه مع نهايات العقد الثاني من القرن العشرين. ومما يذكر ليوسف بودي أنه كان أول من أدخل ماكينة عصرية لطحن الحبوب إلى الكويت من الهند وذلك في سنة 1914، وقد اشتهرت آنذاك بماكينة بودي، حيث كان الأهالي والخبازون يرسلون إليها القمح لطحنه آليًا بدلاً من الطحن بواسطة الراحة التقليدية البطيئة، ثم قام يوسف بودي ببيع تلك الماكينة، وجلب واحدة أحدث في أربعينيات القرن الماضي. ومن أعماله الأخرى أنه كان أول من أنشأ مزرعة نموذجية بمنطقة الفنطاس تعمل بالمضخات الآلية التي لم تكن معروفة آنذاك.