* طفلٌ لا يتجاوز العاشرة، يغادرُ المنزل في الصباح الباكر، بعد أنْ استولى على بطاقة والده البنكيَّة، وبدلًا من الذِّهاب لمدرسته القريبة، يمشي على قدميه مسافةً طويلةً باتِّجاه المطار.. وبعد إبلاغ ذويه، يتمُّ العثور عليه آخر النَّهار مُنهكًا، وعند سؤاله عن سبب ذهابه للمطار، يقول -ببراءة لوَّثتها فيروسات وسائل التَّواصل-: إنَّه كان يرغبُ في السَّفر إلى دولةٍ مجاورةٍ؛ لكي يصبحَ مشهورًا وثريًّا!.
* لم أكنْ في يوم من الأيام حريصًا على دراسة علم السلوك البشريِّ، أكثر ممَّا كنتُ عليه لحظة أخبرني أحد الأصدقاء بهذه القصَّة، التي ملأت ذهني بطوفان من التَّساؤلات: ما الذي يدفعُ طفلًا في العاشرة إلى البحث عن الشُهرة والمال؟! ولماذا اختار تلك الدولة البعيدة بالتَّحديد؟! وكيف نحمي أجيالنا الجديدة من الإصابة بهذا الانفصام الخطير؟.
* أيًّا كانت آراؤنا في مشاهير التَّواصل، فقد أصبحوا واقعًا لابُدَّ من التَّعامل معه بحكمة. إنَّها مسؤوليتنا كآباء وأمهات قبل أنْ تكون مسؤوليَّة أيِّ جهة أُخْرَى، صحيحٌ أنَّه ليس كلُّ الأبناء يفكِّرُون كما فكَّر ذلك الطفلُ المسكينُ، ولكن مَن يضمنْ لي ولك أنَّ أبناءَنا ليسوا متأثِّرين بفيروسات المشاهير، وبفكرهم الذي، حتَّى وإنْ اختلفنا حول سلبيَّته وإيجابيَّته، فلن نختلفَ حول وجوده وقوَّة نفاذه، مع ملاحظة أنَّ كلَّ المؤثِّرات التربويَّة والتوعويَّة التي تعمل في فضائنا الاجتماعي، لا تُقارن بتأثير فيروس واحد من فيروسات التَّواصل، التي تنتشر اليوم بين الناس انتشار الزُّكام.
* لقد اختلَّت كلُّ موازين التَّأثير الاجتماعي منذُ انتشار ما سُمِّي بتلفزيون الواقع، والذي قذف بشخصيَّات سلبيَّة وسامَّة مثل (كيم كاردشيان) ومَن لفَّ لفَّها إلى النجوميَّة والثَّراء وصدارة المشهد، وازداد هذا الاختلال مع ظهور وسائل التَّواصل، حتَّى أصبح بإمكان أيِّ أحدٍ أنْ يشتهرَ في ساعات، اعتمادًا على الدَّرجة التي يمكنه بها أنْ ينتجَ صدمةً وشذوذًا وعدوى فيروسيَّةً، تُلهب كل قيمة في طريقها وتصيبها بالشَّلل!.
* أضحكني جدًّا قبل أيَّام (تبجُّح) إحدى فيروسات الشهرة بالقول: إنَّ المشاهير -وتقصد نفسَها ومَن على شاكِلَتها- أهمُّ من الأطباء والمهندسين والمحامين، وكلِّ فئات المجتمع، وهي فكرةٌ نرجسيَّةٌ مضحكةٌ وخطيرةٌ في آنٍ معًا، مضحكة؛ لأنَّ هؤلاء السطحيُّون يتوهَّمُون أنَّهم يشكِّلُون بِنْياتٍ اجتماعيَّةً محترمةً ومقبولةً من الجميع، وأنَّهم يقودُون المجتمع.. وخطيرة؛ لأنَّها تُلقي مثل هذه الأوهام في نفوس الأطفال، وأصحاب العقول الصغيرة.
* في اعتقادي أنَّ أسوأ ما فعلته بنا ثقافةُ المشاهير المزيَّفة، هو ضربُها وإلغاؤها لقيمة الذَّات عند البعض.. لكن -للأسف- لا أحدَ يفكِّر؛ لأنَّ الفيروساتِ لا تفكِّر.
التعليقات