تشير العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة إلى أن الحرب ستطول ضد الفلسطينيين، على الرغم من أن الوقت ليس في مصلحة الاحتلال ما دامت حركة "حماس" لا تزال قادرة على الصمود وتكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر في صفوف جنوده وآلته الحربية. حتى الآن لم تتمكن قوات الاحتلال الإسرائيلي من تسجيل إنجازات عسكرية كبرى في الميدان، وإن كانت دمرت مناطق بكاملها في غزة، وهجرت مئات آلاف الفلسطينيين إلى جنوب القطاع، لكنها لم تحقق أهدافها المعلنة، وهو ما يجعلها أكثر جنوناً بارتكابها مجازر بحق المدنيين واقتحامها للمستشفيات ومنعها إدخال المساعدات للقطاع المحاصر.
وعلى وقع الحرب في غزة، ما زالت جبهة جنوب لبنان مشتعلة، وإن كانت عادت إلى ما يسمى "قواعد الاشتباك" بين "حزب الله" وإسرائيل، لكن وتيرة المواجهات ترتفع أحياناً وتخف أوقاتاً أخرى، رغم أنها كسرت خطوط القرار الدولي 1701. وباتت جبهة لبنان متصلة أكثر بحرب غزة وليست سوى مؤشر على ما يمكن أن تذهب إليه التطورات في الميدان، وهو ما أشار إليه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله في كلمته في "يوم الشهيد"، من "أن المعركة اليوم مختلفة وهي أن الميدان هو الذي يفعل وهو الذي يتكلم في جبهة لبنان". وهو بذلك يرفع مستوى الخطر الذي يربط البلد بما يحدث في غزة من عمليات قتل وتهجير تنذر باشتعال الحرب الإقليمية التي يشكل لبنان فيها الجبهة الأولى، وربما الوحيدة، على تماس مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي من دون أن يكون القرار فيها للدولة، بل لمرجعيات إقليمية.
الرابط الذي يجعل الحرب طويلة في غزة تحديداً واستمرار اشتعال جبهة لبنان، هو عدم قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها، وإعادة الاعتبار لجيشها، بعدما هددت عملية "طوفان الأقصى" الكيان الإسرائيلي وجودياً، فيما أخرجت الحرب المستوطنين من غلاف غزة ومن مستوطنات شمال إسرائيل القريبة من الحدود اللبنانية، إضافة إلى استمرار أزمة الأسرى والرهائن لدى "حماس"، ما يضغط على الحكومة الإسرائيلية التي باتت في وضع صعب بفعل سياساتها اليمينية المتطرفة ضد الفلسطينيين.
وعلى هذا لا يعمل الوقت لمصلحة إسرائيل، لكنه سيف ذو حدين، إذ يمكن أن تستخدمه لشن مزيد من الحروب هرباً من أزماتها، ما يعني استمرار الحرب وتمددها وإسقاط كل المبادرات الدولية التي تدعو إلى هدن إنسانية أو وقف لإطلاق النار.
العمليات العسكرية المتواصلة في غزة، لا تشير إلى أن الأمور ذاهبة إلى الاتفاق على وقف لإطلاق النار، ذلك أن الوصول إلى ذلك الاتفاق يفتح إمكان البحث بتسويات سياسية أو صيغ شاملة لوقف الحرب، وهو ما لا تريده إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأميركية قبل تحقيق إنجاز كبير على الأرض، لا يبدو أنه متاح بفعل المقاومة المستمرة في أحياء غزة. ويشمل ذلك صيغ إطلاق سراح الرهائن الأجانب وإدخال المساعدات والوقود إلى القطاع، وصولاً إلى صفقة تبادل الأسرى. ذلك أن أي اتفاق سينخرط فيه المجتمع الدولي يفكك الجبهة الداعمة لإسرائيل في حربها، ويطرح حلولاً سياسية قد لا تكون لمصلحة إسرائيل ما لم تحقق أهدافها، إضافة إلى شمول جبهة جنوب لبنان به، خصوصاً بعدما باتت هذه الجبهة ضاغطة على إسرائيل ومستوطناتها في الشمال.
خارج جبهة غزة وحربها البرية، يبدو حتى الآن أنه لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل ولا إيران أيضاً، تريد أن تتحول المعارك في جبهة جنوب لبنان إلى حرب كبرى. لكن لا شيء يمكن أن يضبط الأمور في المستقبل رغم التصريحات الأميركية بضرورة تحييد جبهة لبنان، وحتى تدخل إدارتها مع إسرائيل لمنع توسيع دائرة الحرب، والتي كانت على قاب قوسين أو أدنى من أن تشتعل الأسبوع الماضي بعد التصعيد الكبير الذي شهدته الحدود على الجهتين وتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن إسرائيل تستعد لتوجيه ضربات كبرى إلى لبنان، فيما "حزب الله" أعد العدة لمواجهة كبرى، ليعود إلى الالتزام بقواعد الاشتباك، وهي سياسة تتماهى مع خيارات مرجعيته الإيرانية التي تريد أن تبقى الجبهة مساندة وضاغطة ولا تقود إلى حرب كبرى.
لكن خطر توسع المعارك على جبهة لبنان يبقى قائماً، ما دامت الحرب على غزة ستطول، ولذلك أسباب عدة، أولها أن تلجأ حكومة نتنياهو إلى خيارات جنونية بالهروب من مأزق غزة وتوريط الولايات المتحدة بحرب جديدة لا تريدها الآن، باعتبار أنها تنعكس على المنطقة كلها، وثانياً لإعادة الاعتبار وحتى الثقة لمنظومة الجيش والمؤسسة الأمنية والحكومة تحت عنوان إزالة تهديد "حزب الله" المسلح على الحدود، لإعادة المستوطنين إلى منازلهم، لكن نتائج هذه الحرب غير محسومة لجهة الأفق السياسي لها أو القدرة على تحقيق أهدافها من دون دعم الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى.
حرب غزة مفتوحة على كل الاحتمالات ومعها جبهة لبنان، وهي جزء من توجه أميركي لإعادة ترتيب وضع المنطقة، لذا يلاحظ أن الأميركيين يضغطون على إسرائيل لمنعها من اتخاذ قرارات جنونية أحياناً، ثم يتغاضون عن جرائمها في غزة أحياناً أخرى، لكنهم يضبطون مسار الحرب ويضغطون في الخارج لإبقاء الدعم المطلق لإسرائيل إلى حين تحقيقها إنجازاً على الأرض. وفي المقابل، يعملون على خطط لإعادة هيكلة الوضع الفلسطيني بإخراج "حماس" والإتيان بقيادة فلسطينية جديدة، كما إعادة ترتيب الوضع الإسرائيلي بإعادة الثقة لجيشه بعدما اهتزت صورته حتى في الداخل الإسرائيلي ولم يعد ينظر إليه أنه الجيش القادر على حماية أمن إسرائيل واستقرارها، وصولاً إلى تغيير الحكومة الإسرائيلية الحالية، وإن كان ذلك مرتبطاً بنتائج الحرب.
مع استمرار الحرب في غزة تبقى المخاطر قائمة في لبنان. هناك ضغوط دولية ومحاولات لضبط الجبهة تجنباً لحرب قد تنشب اليوم أو غداً. إسرائيل تريد إبعاد "حزب الله" من الحدود، بمعنى أنها لا تريد وجوداً مسلحاً على جبهة لبنان يهدد مستوطناتها، فيما يعمل الأميركيون على الدفع للالتزام بالقرار 1701 بحذافيره، أي إخراج الحزب إلى ما بعد جنوب الليطاني، وترك المنطقة خالية من السلاح. لكن هذا الأمر غير ممكن الآن، في وقت يستمر الصراع الإيراني - الأميركي في المنطقة كلها، إضافة إلى أن "حزب الله" لا يتخلى عن سلاحه في المنطقة الجنوبية.
وقد ظهرت محاولات دبلوماسية لتحييد لبنان عن حرب غزة، بعضها يندرج في إطار الضغوط لمنع توسيع دائرة المعارك خارج سياق قواعد الاشتباك وضبطها. والمعنى من هذه المحاولات أن لا يبقى لبنان أسير الميدان. وثمة تحذيرات من أن هناك خطراً حقيقياً من إمكان توجيه ضربات إسرائيلية للبنان إذا ذهبت الأمور بعيداً في ميدان غزة، والتذكير بوقائع ما يحدث للفلسطينيين على الرغم من صمودهم في مواجهة آلة القتل الإسرائيلية.
وعلى هذا، فإن ترك الأمور للميدان لتحديد مسار توسع الحرب على جبهة الجنوب سلاح ذو حدين، فهو يبقي لبنان تحت دائرة الضغوط ويحمّله تبعات أنه الساحة الأساسية التي يؤدي فيها "حزب الله" دوراً باستهدافات إقليمية لا تحفظ مصالح البلد في ظل التوحش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فيما الأولوية يجب أن تكون لإنقاذ لبنان بالعمل أولاً لعدم زجه في حرب كبرى وتجنيبه احتمالات التدمير والانهيار.
في غزة فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها العسكرية المعلنة، وهي تواجه على جبهة لبنان مأزقاً كبيراً. الفشل قد يفتح على إمكان التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكنه أيضاً قد يوسع دائرة الحرب. أما الفلسطينيون، رغم صمودهم، فيدفعون أثماناً باهظة، بالقتل والتهجير. فيما لبنان تحوّل إلى ساحة حرب انعكست على كل أوضاعه. الواضح أن حرب غزة ستترك نتائج على المنطقة وستغير الكثير مما عرفناه قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
التعليقات